الفريق الثاني : الّذين يعبدون المسيح عليه الصلاة والسلام (١).
__________________
(١) لم ينقل من طريق صحيح عن ملة من الملل ؛ إسلامية أو غير إسلامية ، أنها صرّحت بأن الله ـ تعالى ـ اتخذ صاحبة ، وإنما الذي نقل : هو أن طائفة من النصارى قالت : (الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) ، وطائفة من اليهود قالت : (عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) ، وجاء في القرآن آيات كثيرة ترد على هاتين الطائفتين ، نذكر من بين هذه الآيات آية واحدة ، مع تبيين جهة الردّ الذي تضمنته ، قال ـ تبارك وتعالى ـ : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).
بيان ذلك : أن يقال لهاتين الطائفتين : إمّا أن تريدوا بقولكم (إن لله ابنا) أن الله أحدثه وأبدعه لا على مثال سبق ؛ لكونه لم يتولد من نطفة ، أو اختصّ بمزايا لم توجد في غيره ، ولا في من سبقه ، وإمّا أن تريدوا ذلك المعنى المتعارف من الولادة في الحيوان ، وإمّا أن تريدوا معنى آخر ، فإن أردتم المعنى الأول ، يردّ عليكم بخلق السموات والأرض ؛ فإنّ الله أبدعهما لا على مثال سبق ، وأودع فيهما من الخواص والمزايا ما لا يدخل تحت حصر ، ومع ذلك ؛ لم يقل أحد من الملّيين ؛ بأن السموات والأرض ابن الله ـ فبطل قولكم : إن لله ابنا بهذا المعنى ، وإلى هذا الرد أشير بقوله : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، وإن أردتم الولادة المعروفة في الحيوان ، فهذا باطل أيضا ؛ لوجوه : الأول ؛ أن تلك الولادة لا تصلح إلا ممن كانت صاحبة وشهوة ، وينفصل عنه جزء ، ويحتبس ذلك الجزء في رحم تلك الصاحبة ، ـ وهذه الأحوال إنّما تصح في الجسم الذي يصحّ عليه الاجتماع ، والافتراق ، وباقي عوارض الجسم ، وهذا محال على خالق العالم ؛ لأنه قديم مخالف للممكنات ، وقد أشير إلى هذا الوجه بقوله تعالى : (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ).
الثاني : ـ إن تحصيل الولد بهذا الطريق ، إنما يصح في حق من لا يكون قادرا على الخلق ، والإيجاد ، والتكوين دفعة واحدة ، ـ فإذا أراد الولد ، وعجز عن تكوينه دفعة واحدة ، عدل إلى تحصيله بالطريق المعتاد ، أمّا من كان خالقا لجميع الممكنات ، قادرا على كل المحدثات ، فإنه إذا أراد إحداث شيء قال له : «كن فيكون» وحيث كان الإله بهذا الوصف ، امتنع إحداثه للشخص بطريق الولادة ، وهذا الوجه يشير إلى قوله تعالى : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ).
الثالث : إن ذلك الولد إمّا أن يكون قديما ، وإمّا أن يكون حادثا لا جائز أن يكون قديما ؛ لأن القديم لا يحتاج لغيره ، وهذا الولد يحتاج إلى أبيه في تكوينه ، فبطل كونه قديما ، فتعيّن كونه حادثا وحينئذ يقال لهؤلاء القائلين : إن لله ابنا ، قد ثبت بالدليل العقلي أن الله ـ تعالى ـ عالم بكل شيء ، فإمّا أن يعلم أن في تحصيل ولد كمالا ونفعا له ، وإمّا أن يعلم أن لا كمال ، ولا نفع في تحصيله فإن كان يعلم أن في تحصيل الولد كمالا ونفعا ، فلا وقت يفرض إلا والداعي إلى إيجاد هذا الولد متحقق ، وهذا يوجب كون الولد أزليّا ، وهو محال ، ولم يقل به أحد أصلا ، وإن كان يعلم أن لا كمال في إيجاده ، ولا نفع في تحصيله ـ وجب ألّا يحدث في وقت من الأوقات ، فلا ولد له أصلا ، وإلى هذا الوجه أشير بقوله تعالى : (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ، وإن أردتم معنى غير ما ذكر ، فبينوه لنا لنتكلم معكم فيه.
ونقل عن طوائف النّصارى القول بالاتحاد ، وعن بعضهم القول بالحلول ، وعن بعضهم القول بأن عيسى ابن الله ، وعن بعض طوائف اليهود القول بأن عزيرا ابن الله ، واختلف النقل عن النصارى في معنى الاتحاد : فقيل : معناه أنّ الكلمة وهي : صفة العلم ظهرت في «عيسى» ، وصارت فيه هيكلا ، وقيل : معناه المخارجة ، بمعنى : أن يكون من الكلمة وعيسى شيء ثالث. وأما القول بالحلول ؛ فمعناه على رأي بعض فرقهم : أن الكلمة ـ وهي صفة العلم ـ حلّت في المسيح ، وعلى رأي البعض الآخر ، أن ذات الله حلّت في المسيح ، ولما كان كلامهم في الحلول والاتحاد مضطربا ، وغير منضبط على وجه صحيح ـ نذكر الصور العقلية التي تتأتى في الاتحاد والحلول ؛ فنقول : ـ