الثالث : عبدة الأوثان. واعلم أنه لا دين من أديان الكفر أقدم من دين عباد النار ؛
__________________
ـ إما أن يقولوا باتحاد ذات الله بالمسيح ، أو حلول ذاته فيه ، أو حلول صفته فيه ، وكل ذلك إما ببدن عيسى أو بنفسه ، وإما ألّا يقولوا بشيء من ذلك ؛ وحينئذ فإما أن يقولوا : أعطاه الله قدرة على الخلق والإيجاد أو لا ، ولكن خصه الله بالمميزات ، وسماه «ابنا» تشريفا ؛ كما سمّى إبراهيم «خليلا» ، فهذه ثمانية احتمالات كلها باطلة للأدلة التي أحالت حلول الله واتحاده ، والسابع باطل ؛ لما ثبت أنه لا مؤثّر في الوجود إلا الله ، وبقي احتمال اتحاد الكلمة بذات المسيح ، وهو باطل أيضا ؛ لأن الكلمة المراد منها عندهم صفة العلم والاتحاد بجميع معانيه ، وأفراده مستحيل على الله بالأدلة السابقة ، والشبهة التي أوقعت النصارى في هذه الكلمات ؛ هي ما جاء في الإنجيل في عدة مواضع ؛ من ذكر الله بلفظ الأب ، وذكر عيسى بلفظ الابن ، وذكر الاتحاد والحلول تصريحا أو تلويحا.
فمن ذلك : ما جاء في إنجيل (يوحنا) ، في الإصحاح الرابع عشر (يا فيلسوف ، من يراني ويعاينني ، فقد رأى الأب ، فكيف تقول أنت : أرنا الأب ولا تؤمن أني بأبي وأبي بي واقع واقع ، وأن الكلام الذي أتكلم به ليس من قبل نفسي ، بل من قبل أبي الحالّ فيّ ، وهو الذي يعجل هذه الأعمال التي أعمل ، آمن وصدّق أني بأبي وأبي بي).
هذا لفظ الإنجيل المنقول إلى العربية المتداول عندهم ، فأخذ بعضهم الاتحاد من قوله : (من يراني ويعاينني فقد رأى الأب) ، وأخذ بعضهم الحلول من قوله : (أبي الحالّ في) ، وأخذ البنوة من التصريح بلفظ الأب مرّة بعد أخرى ، وهذا لا يصلح دليلا ؛ لوجهين :
الوجه الأول : توافرت الأدلة على حصول التغيير والتبديل في الإنجيل ، فاحتمل أن يكون ذلك المذكور في إنجيل «يوحنا» مما حصل فيه التغيير والتبديل ، فلا يصلح حينئذ أن يكون دليلا ؛ فلا يصحّ به الاستدلال.
الثاني : أن نتنزل ونقول : لا تغيير ولا تبديل في ذلك المنقول ، لكن دلالته على مدعاهم ليست يقينية ؛ لجواز أن يكون المراد من الاتحاد الذي فهمه بعضهم من الجملة الأولى الاتحاد في بيان طريق الحق ، وإظهار كلمة الصدق ؛ كما يقال : أنا وفلان واحد في هذا القول ؛ ولجواز أن يكون المراد من الحلول المصرح به في بعض الجمل حلول آثار صنع الله ؛ من إحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص ؛ ولجواز أن يكون المراد من الأب المبدىء ؛ فإن القدماء كانوا يطلقون الأب على المبدىء ، فمعنى قوله : أبي مبدئي وموجدي ، وسمى عيسى «ابنا» ؛ تشريفا له ؛ كما سمى إبراهيم «خليلا».
وأيضا فمن كان متوجها لشيء ومقيما عليه ، يقال له : «ابنه» ؛ كما يقال : أبناء الدنيا وأبناء السبيل ، فجاز أن يكون تسمية عيسى بالابن ؛ لتوجهه في أكثر الأحوال إلى الحق ، واستغراقه أغلب الأوقات في جناب القدس ، ومما يؤكد ذلك أنه جاء في الإصحاح السابع عشر من إنجيل «يوحنا» ؛ حيث دعا عيسى للحواريين ما لفظه : (وكما أنت يا أبي بي وأنا بك فليكونوا هم أيضا نفسا واحدا ؛ ليؤمن أهل العلم بأنك أنت أرسلتني ، وأنا قد استودعتهم بالمجد الذي مجدتني به ، ودفعته إليهم ؛ ليكونوا على الإيمان ، كما أنا وأنت أيضا واحد ، وكما أنت حالّ فيّ كذلك أنا فيهم ؛ ليكون كما لهم واحدا) هذا لفظ الإنجيل ، وقد تبيّن منه معنى الاتحاد والحلول على وجه مغاير لما فهموه ، وجاء في «الإصحاح التاسع عشر» ما لفظه : إني صاعد إلى أبيكم ، وإلهي وإلهكم ، وهذا يدل بواسطة العطف ، على أن المراد من الأب الإله ، وعلى أنه مساو لهم في معنى البنوة والعبودية ، فهذه النصوص تدحض حجتهم ، وتلزمهم إذا أرادوا الحق بالرّجوع إلى ما نصّت به الأدلة العقلية المتقدمة ؛ من استحالة الاتحاد والحلول والنبوة.
أما بعض اليهود الذين قالوا : إن عزيرا ابن الله ، فقد أشار الله ـ تعالى ـ إليه بقوله : (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ). نسب الله ذلك القول إلى اليهود ، مع أنه قول لطائفة منهم ؛ جريا على عادة العرب في إيقاع ـ