لأنه يروى أنّ النّار لما أكلت قربان «هابيل» جاء «إبليس» إلى «قابيل» ، وأخبره أنها إنما أكلت قربان أخيه ؛ لأنه عبدها ، فعبدت النار من ذلك الوقت.
وقيل : لا دين من أديان الكفر أقدم من دين عبدة الأوثان ؛ لأن أقدم الأنبياء الذين نقل إلينا تاريخهم هو نوح عليه الصلاة والسلام ؛ لأنه إنما جاء بالرد عليهم على ما أخبر الله ـ تعالى ـ عن قومه في قوله تعالى : (وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً) [نوح : ٢٣] فعلمنا أن هذه المقالة كانت موجودة قبل نوح عليه الصلاة والسّلام باقية إلى الآن ، والمذهب الذي هذا شأنه ، فيستحيل معرفة فساده بالضرورة ، لكن العلم بأن هذا الحجر المنحوت في هذه السّاعة ليس هو الذي خلقه وخلق السماء والأرض علم ضروري ، فيستحيل إطباق الجمع العظيم عليه ؛ فوجب أن يكون لعبدة الأوثان غرض آخر سوى ذلك ، والعلماء ذكروا فيه وجوها :
أحدها : ما ذكره أبو معشر جعفر بن محمد المنجم البلخي (١) أن كثيرا من أهل «الصّين» و «الهند» كانوا يقولون بالله ، وملائكته ، ويعتقدون أنه ـ تعالى ـ جسم وصورة كأحسن ما يكون من الصّور ، وهكذا حال الملائكة أيضا في صورهم الحسنة ، وأنهم كلّهم قد احتجبوا عنا بالسماء ، وأن الواجب عليهم أن يصوغوا تماثيل أنيقة المنظر ، حسنة المرأى ، على الهيئة (٢) التي كانوا يعتقدونها من صور الإله والملائكة ، فيعكفون على عبادتها قاصدين به طلب الزّلفى إلى الله ـ سبحانه ـ وملائكته. فإن صحّ ما قال أبو معشر ، فالسّبب في عبادة الأوثان اعتقاد الشبه.
وثانيها : ما ذكر أكثر العلماء أن الناس رأوا تغيرات أحوال هذا العالم مربوطة بتغيرات أحوال الكواكب ؛ فإنه بحسب قرب الشمس وبعدها عن سمت الرأس يحدث الفصول المختلفة ، والأحوال المتباينة ، ثم إنهم رصدوا أحوال سائر الكواكب ، فاعتقدوا ارتباط السعودة والنحوسة في الدنيا بكيفية وقوعها في طوالع الناس ، فلما اعتقدوا ذلك
__________________
ـ اسم الجماعة على الواحد ، والسبب الذي دعا هذه الطائفة إلى القول بأن عزيرا ابن الله : أن اليهود تركوا العمل بما في التوراة ، وعملوا بغير الحق ، فعاقبهم الله تعالى ؛ بأن أنساهم التوراة ، ونسخها من صدورهم ، فتضرع «عزير» إلى الله ، وابتهل إليه ، فعاد حفظ التوراة إلى قلبه ، فأنذر قومه به ، فلمّا جرّبوه ، وجدوه صادقا فيه ؛ فقالوا : ما تيسّر هذا لعزيز دون سواه إلا لأنه ابن الله ، وهذه شبهة واهية لا يصحّ الاستناد إليها ؛ لأن إجابة المطلب مرتبطة بالقبول ، والقرب من الله ، والخضوع لأوامره ، واجتناب نواهيه ، لا بالبنوة كما يزعمون.
(١) جعفر بن محمد بن عمر البلخي أبو معشر : عالم فلكي مشهور كان أولا من أصحاب الحديث وتعلم النجوم بعد سبع وأربعين سنة من عمره تصانيفه كثيرة ، منها كتاب الطبائع والمدخل الكبير والألوف في بيوت العبادات والدول والملل والملاحم وهيئة الفلك وطبائع البلدان والأمطار والرياح توفي سنة ٢٧٢ ه. ينظر الأعلام : ٢ / ١٢٧ (١٨١٩) ، الفهرست لابن النديم : ١ / ٢٧٧ ، ابن خلكان : ١ / ١١٢.
(٢) في ب : الماهية.