وسفكوا الدّماء ، وقتل بعضهم بعضا ، بعث الله «إبليس» في جند من الملائكة ، فقتلهم «إبليس» بعسكره حتى أخرجوهم من الأرض ، وألحقوهم بجزائر البحر ، وشعوب الجبال ، وسكنوا الأرض ، وخفّف الله عنهم العبادة ، وأعطى «إبليس» ملك الأرض ، وملك سماء الدنيا ، وخزانة الجنّة ، فكان يعبد الله تارة في الأرض ، وتارة في السماء ، وتارة في الجنة ، فأخذه العجب وقال في نفسه : ما أعطاني الله هذا الملك إلا لأني أكرم الملائكة عليه فقال تعالى لهم : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً).
وقال أكثر الصحابة والتابعين إنه قال ذلك لجماعة الملائكة من غير تخصيص ، لأن لفظ الملائكة يفيد العموم.
فإن قيل : ما الفائدة في أن الله قال للملائكة : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) مع أنه منزّه عن الحاجة إلى المشهورة؟.
فالجواب من وجهين :
الأوّل : أنه ـ تعالى ـ علم أنهم إذا اطّلعوا على ذلك السّر أوردوا عليه ذلك السّؤال ، فكانت المصلحة تقتضي إحاطتهم بذلك الجواب ، فعرّفهم هذه الواقعة لكي يوردوا ذلك السّؤال ، ويسمعوا ذلك الجواب.
والثاني : أنه ـ تعالى ـ علم عباده المشورة.
قوله : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) هذه الجملة معمول القول ، فهي في محل نصب به ، وكسرت «إنّ» هنا ، لوقوعها بعد القول المجرّد من معنى الظّنّ محكية به ، فإن كان بمعنى الظّن جرى فيها وجهان : الفتح والكسر ؛ وأنشدوا : [الطويل]
٣٥٦ ـ إذا قلت أنّي آيب أهل بلدة |
|
نزعت بها عنه الوليّة بالهجر (١) |
وكان ينبغي أن يفتح ليس إلّا ؛ نظرا لمعنى الظن ، لكن قد يقال جاز الكسر مراعاة لصورة القول. و «إن» على ثلاثة أقسام :
قسم يجب فيه كسرها ، وقسم يجب فيه فتحها ، وقسم يجوز فيه الوجهان.
والضابط الكليّ في ذلك : أن كلّ موضع سدّ مسدّها المصدر ، وجب فيه فتحها ؛ نحو : «بلغني أنك قائم» ، وكلّ موضع لم يسدّ مسدّها ، وجب فيه كسرها ؛ كوقوعها بعد القول ومبتدأة وصلة وحالا ، وكل موضع جاز أن يسدّ مسدّها ، جاز الوجهان ؛ كوقوعها بعد فاء الجزاء ، و «إذا» الفجائية.
__________________
(١) البيت للحطيئة ينظر ديوانه : ص ٢٢٥ ، وتخليص الشواهد : ص ٤٥٩ ، خزانة الأدب : ٢ / ٤٤٠ ، شرح التصريح : ١ / ٢٦٢ ، المقاصد النحوية : ٢ / ٤٣٢ ، أوضح المسالك : ٢ / ٧٢ ، شرح الأشموني : ١ / ١٦٥ ، الدر المصون : ١ / ١٧٦.