وقال «أبو هاشم» : إنه لا بد من تقدم لغة اصطلاحية ، وأن الوضع لا بد وأن يكون مسبوقا على الاصطلاح ، واحتج بأمور :
أحدها : أنه لو حصل العلم الضروري بأنه ـ تعالى ـ وضع ذلك اللّفظ لذلك المعنى لصارت صفة الله معلومة بالضرورة ، مع أن ذاته معلومة بالاستدلال ، وذلك محال ، ولا جائز أن يحصل لغير العاقل ، لأنه يبعد في العقول أن يحصل العلم بهذه اللّغات مع ما فيها من الحكم العجيبة لغير العاقل ، فالقول بالتوقيف فاسد.
وثانيها : أنه ـ تعالى ـ خاطب الملائكة ، وذلك يوجب تقدّم لغة على ذلك التكلم.
وثالثها : أن قوله : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) يقتضي إضافة التعليم إلى الأسماء ، وذلك يقتضي في تلك الأسماء أنها كانت أسماء قبل ذلك التّعليم ، وإذا كان كذلك كانت اللّغات حاصلة قبل ذلك التعليم.
__________________
ـ «ومن آياته ـ خلق اللغات» ، وذلك هو التوقيف.
وأما المعقول فمن وجهين :
الأول : هو أن الاصطلاح لا يتصور ، إلا بأن المصطلح يعرّف غيره ما اصطلح هو عليه ، من الألفاظ التي وضعها ، والمعاني التي وضع لها الألفاظ ، ولا يمكن التّعريف إلا بطريق ، ولا طريق إلا الألفاظ والكتابة وأيّما كان فذلك الطريق لا يفيد لذاته ؛ لما بيّنا أن دلالة الألفاظ ليست ذاتية ، فتعيّن أن يكون الطريق هو : إما الوضع أو الاصطلاح ، والكلام فيه كما في الأول ، فيلزم التسلسل ؛ وهو محال ، أو التوقيف ؛ وهو المطلوب.
الوجه الثاني من وجهي المعقول : هو أن الألفاظ لو كانت اصطلاحية ، لارتفع الأمان عن الشريعة ؛ لأنها لعلها على خلاف الواقع بأن بدّلت وغيّرت ، فلا يحصل لنا الوثوق بشيء من الأحكام المستفادة من الكتاب ؛ لاحتمال أنها كانت في الأصل لمعنى والمراد ذلك المعنى ، ثم غيّرت ونحن نحملها على ما غيّرت إليه دون الأول ؛ لجهلنا به الآن.
ولا يقال : هذا الاحتمال منقدح ، وإن قلنا بكونها توقيفية ؛ لأنّا نمنع ذلك ؛ وذلك لأن طريق التوقيف هو العلم الضروري ؛ بأنّ واضعا وضع هذه الألفاظ بإزاء هذه المعاني ، ودخول التّحريف فيه ممنوع ؛ ولأن الوضع إذا كان من الله ، فالله يصونه عن التغيير والتحريف غالبا.
انظر البرهان لإمام الحرمين : ١ / ١٦٩ ، البحر المحيط للزركشي : ٢ / ٥ ، الإحكام في أصول الأحكام للآمدي : ١ / ٧٠ ، سلاسل الذهب للزركشي : ص ١٦٣ ، التمهيد للإسنوي : ص ١٣٥ ، نهاية السول له : ٢ / ١١ ، زوائد الأصول له : ص ٢١١ ، منهاج العقول للبدخشي : ١ / ٢٢٠ ، غاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري : ص ٤١ ، التحصيل من المحصول للأرموي : ١ / ١٩٣ ، المنحول للغزالي : ص ٧٠ ، المستصفى له : ١ / ٣١٨ ، حاشية البناني : ١ / ٢٦٩ ، الإبهاج لابن السبكي : ١ / ١٩٤ ، الآيات البينات لابن قاسم العبادي : ٢ / ٦٠ ، حاشية العطار على جمع الجوامع : ١ / ٣٥٢ ، الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم : ١ / ٤٢ ، التحرير لابن الهمام : ص ١٦ ، تيسير التحرير لأمير بادشاه : ١ / ٤٩ ، حاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى : ١ / ١١٥ ، تقريب الوصول لابن جزي : ص ٧١ ، نشر البنود للشنقيطي : ١ / ١٠٤ ، فواتح الرحموت لابن نظام الدين الأنصاري : ١ / ١٧٧ ، شرح الكوكب المنير للفتوحي : ص ٢٨.