قلنا : نسلم ، ولم قلتم بأن العبادة في المواضع الطّيبة أشقّ من العبادة في المواضع الرّديئة؟ أكثر ما في الباب أنه تهيّأ لهم أسباب النعم ، فامتناعه عنها مع تهيئتها له أشق ، ولكنه معارض بما أن أسباب البلاء مجتمعة على البشر ، ومع هذا يرضون بقضاء الله ، ولا تغيرهم تلك المحن عن المواظبة على عبوديته ، وهذا أعظم في العبودية.
وأما قولهم : المواظبة على نوع واحد من العبادة أشقّ.
قلنا : لما اعتادوا نوعا واحدا صاروا كالمجبورين الذين لا يقدرون على خلافه ؛ لأنّ العادة طبيعة خامسة ، ولذلك قال صلىاللهعليهوسلم : «أفضل الصّوم صوم داود كان يصوم يوما ويفطر يوما» (١).
ورابعها : قالوا : عبادات الملائكة أدوم ؛ لأن أعمارهم أطول ، فكانت أفضل لقوله عليه الصلاة والسلام : «أفضل العبّاد من طال عمره ، وحسن عمله» (٢).
ولقائل أن يقول : إن نوحا ولقمان والخضر ـ عليهم الصّلاة والسلام ـ كانوا أطول عمرا من محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ فوجب أن يكونوا أفضل منه ، وذلك باطل بالاتفاق.
وخامسها : أنهم أسبق في كل العبادات فيكونون أفضل لقوله تعالى : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) [الواقعة : ١٠ ، ١١] ولقوله عليه الصلاة والسلام : «من سنّ سنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة» (٣).
__________________
(١) أخرجه مسلم في الصحيح : (٢ / ٨١٢) كتاب الصيام (١٣) باب النهي عن صوم الدهر وبيان تفضيل صوم يوم وإفطار يوم (٣٥) حديث رقم (١٨١ / ١١٥٩).
والنسائي في السنن (٤ / ٢٠٩) كتاب الصيام (٢٢) باب صوم يوم وإفطار يوم (٧٦) حديث رقم (٢٣٨٨) وابن عساكر ٦ / ٤١٩ ـ وذكره ابن حجر في فتح الباري : ٤ / ٢٢١ ، وابن كثير في البداية والنهاية : ٢ / ١٦.
والزبيدي في الإتحاف : ٤ / ٢٦١.
والهندي في كنز العمال حديث رقم ٢٤١٦٠.
(٢) أخرجه الترمذي في السنن (٤ / ٤٨٩) كتاب الزهد (٣٧) باب ما جاء في طول العمر للمؤمن (٢١) ، (٢٢) حديث رقم (٢٣٢٩) عن عبد الله بن بسر وعبد الرحمن بن أبي بكر عن أبيه أن رجلا قال يا رسول الله أي الناس خير قال من طال عمره وحسن عمله قال فأي الناس شر؟ قال من طال عمره وساء عمله. حديث رقم ٢٣٣٠ قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح.
وأخرجه أحمد في المسند (٤ / ١٨٨) ، (٥ / ٤٠ ، ٤٣ ، ٤٧ ، ٤٨ ، ٤٩ ، ٥٠) ـ والدارمي في السنن (٢ / ٣٠٨) والبيهقي في السنن (٣ / ٣٧١) ـ والحاكم في المستدرك (١ / ٣٣٩) ـ والطبراني في الصغير (٢ / ٢٠). وابن أبي شيبة (١٣ / ٢٥٤ ، ٢٥٦) وذكره المنذري في الترغيب ٤ / ٢٥٤.
(٣) أخرجه مسلم في الصحيح (٢ / ٧٠٥) كتاب الزكاة (١٢) باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة (٢٠) حديث رقم (٦٩ / ١٠١٧) والترمذي في السنن حديث رقم ٢٦٧٥ وابن ماجه في السنن حديث رقم (٢٠٧). وأحمد في المسند (٤ / ٣٦١ ، ٣٦٢) ـ وابن أبي شيبة (٣ / ١٠٩) وابن خزيمة في ـ