بكونه جنيا ، ولا يمكن تعليل ترك السجود بكونه خازن الجنّة ، فبطل ذلك.
(وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) قلنا : يحتمل أن بعض الكفّار أثبت ذلك النسب في الجنّ ، كما أثبته في الملائكة ، وأيضا فقد بينا أن الملك يسمى جنّا بحسب أصل اللّغة ، لكن لفظ الجنّ بحسب العرف اختصّ بالغير ، كما أن لفظ الدّابة يتناول كل ما دبّ بحسب اللّغة الأصلية ، كلغة بحسب العرف اختص ببعض ما يدبّ ، فيحتمل أن تكون هذه الآية على اللغة الأصلية والآية التي ذكرناها على العرف الحادث.
وثانيها : أن «إبليس» له ذريّة لقوله تعالى : (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ) [الكهف: ٥٠] والملائكة لا ذريّة لها ؛ لأن الذّرية إنما تحصل من الذّكر والأنثى ، والملائكة لا أنثى فيها لقوله تعالى : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ) [الزخرف : ١٩] أنكر على من حكم عليهم بالأنوثة.
وثالثها : أنّ الملائكة معصومون ، و «إبليس» لم يكن كذلك فوجب ألا يكون من الملائكة.
ورابعها : أن «إبليس» مخلوق من نار لقوله تعالى حكاية عن «إبليس» : (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ) [الأعراف : ١٢].
قال : (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ) [الحجر : ٢٧] والملائكة مخلوقون من النّور ، لما روت عائشة عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «خلقت الملائكة من نور وخلق الجانّ من مارج من نار» (١).
حجّة القول الثاني ، وهو أن «إبليس» كان من الملائكة أمران :
الأول : أن الله ـ تعالى ـ استثناه من الملائكة ، والاستثناء المنقطع مشهور في كلام العرب ، قال الله تعالى : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ ، إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) [الزخرف : ٢٦ ، ٢٧] وقال : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا سَلاماً) [الواقعة : ٢٥ ، ٢٦] وقال : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً) [مريم : ٦٢] ، وقال : (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ) [النساء : ٢٩] ، وقال : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً) [النساء : ٩٢] وأيضا فلأنه كان جنيّا واحدا بين الألوف من الملائكة ، فغلبوا عليه في قوله : فسجدوا ، ثم استثني هو منهم استثناء واحد منهم ؛ لأنا
__________________
(١) أخرجه مسلم في الصحيح (٤ / ٢٢٩٥) كتاب الزهد (٥٣) باب لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين (١٢) حديث رقم (٦٣ / ٢٩٩٨) وأحمد في المسند (٦ / ١٥٣ ، ١٦٨) ـ وابن عساكر ٢ / ٦٤٣ والبيهقي في السنن (٩ / ٣) ـ وعبد الرزاق في مصنفه حديث رقم (٢٠٩٠٤) ـ وذكره ابن كثير في البداية والنهاية : (١ / ٥٥٤ ، ٥٥٥) ـ والسيوطي في الدر المنثور ٦ / ١٤٣ ـ وابن كثير في التفسير ٣ / ٣٨٨ ، ٥ / ١٦٣ ، ٧ / ٤٦٧.