وكان الغرض الأسمى من تأصيل هذه العلوم وتقعيدها خدمة القرآن الكريم ، صيانة له من اللحن ، ولا سيما بعد اتصال العرب بالعجم.
وقد أثرت هذه الدراسات في تفسير القرآن تأثيرا كبيرا ، إذ اشتغل اللغويون أنفسهم بالقرآن ولغته ، وكان من أشهر هؤلاء العلماء «أبو عبيدة معمر بن المثنى» المتوفى سنة ٢٠٨ ه أو ٢١٥ ه ، وقد ألف كتابه «مجاز القرآن» سنة ١٨٨ ه (١) ويعد هذا الكتاب أقدم مؤلف في معاني القرآن وصل إلينا.
وأبو عبيدة موسوعة علمية له مؤلفات في مجالات شتى ، وقد «أوتي لسانا صارما جلب على نفسه عداوات كثيرة ، ثم تنفس به العمر قرابة قرن كامل زامل فيه أعلاما كبارا ، وجادل خصوما كثارا ، وشهد تلاميذه ومن في طبقتهم يجادلون عنه ، ويجادلون فيه ، فقرب وباعد ، وواصل وقاطع ، ولكن مخالفيه كانوا من الكثرة بحيث أرهقوه وضايقوه ، حتى جاءه الأجل فلم ينهض لتشييع جنازته أحد ، وعلل ذلك بما ترك من حزازات أدبية» (٢).
ويحكي أبو عبيدة سبب تأليفه كتاب «مجاز القرآن» فيقول :
«أرسل إليّ الفضل بن الربيع إلى البصرة في الخروج إليه سنة ثمان وثمانين ومائة ، فقدمت إلى بغداد واستأذنت عليه فأذن لي ، فدخلت عليه وهو في مجلس له طويل عريض فيه بساط واحد قد ملأه ، وفي صدره فرش عالية لا يرتقى إليها إلا على كرسي ، وهو جالس عليها فسلمت عليه بالوزارة فرد وضحك إليّ واستدناني حتى جلست إليه على فرشة ثم سألني وألطفني وباسطني ، وقال : أنشدني فأنشدته فطرب وضحك وزاد نشاطه ، ثم دخل رجل في زي الكتاب له هيئة فأجلسه إلى جانبي وقال له : أتعرف هذا؟ قال لا. قال هذا أبو عبيدة علّامة أهل البصرة ، أقدمناه لنستفيد من علمه. فدعا له الرجل وقرّظه لفعله هذا ، وقال لي : إني كنت إليك مشتاقا ، وقد سألت عن مسألة أفتأذن لي أن أعرفك إياها؟
فقلت : هات ، قال : قال الله عزوجل : (طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ) وإنما يقع الوعد والإيعاد بما عرف مثله وهذا لم يعرف. فقلت : إنما كلم الله تعالى العرب على قدر كلامهم ، أما سمعت قول امرىء القيس : [الطويل]
أيقتلني والمشرفيّ مضاجعي |
|
ومسنونة زرق كأنياب أغوال |
وهم لم يروا الغول قط ، ولكنه لما كان أمر الغول يهولهم أوعدوا به ، فاستحسن الفضل ذلك واستحسن السائل ، وعزمت من ذلك اليوم أن أضع كتابا في القرآن في مثل هذا وأشباهه وما يحتاج إليه من علمه فلما رجعت إلى البصرة عملت كتابي الذي سميته المجاز ، وسألت عن الرجل السائل فقيل لي : هو من كتاب الوزير وجلسائه وهو إبراهيم بن إسماعيل الكاتب» (٣).
__________________
(١) معجم الأدباء ١٩ / ١٥٨.
(٢) خطوات التفسير البياني د. رجب البيومي ص ٣٧ ، ٣٨ ، وراجع : معجم الأدباء ١٩ / ١٦٠.
(٣) معجم الأدباء ١٩ / ١٥٨.