ثمّ قالوا : يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا ، ذكروه على سبيل التّهكّم ، فهذا من قول الكفّار ، ثمّ قال تعالى جوابا لهم : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) أي ما أضلّ إلّا الفاسقين. هذا مجموع كلام المعتزلة.
قالت الجبرية (١) : وهذا معارض بمسألة الدّاعي ، وهي أن القادر على العلم والجهل والإهداء والضلال لم فعل أحدهما دون الآخر؟
ومعارض أيضا بمسألة العلم على ما سبق تقريرها في قوله تعالى : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) [البقرة : ٧].
والجواب عن الآيات يأتي في مواضعه.
قوله : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) «الفاسقين» مفعول ل «يضل» وهو استثناء مفرّغ ، وقد تقدّم معناه ، ويجوز عند القرّاء أن يكون منصوبا على الاستثناء والمستثنى منه محذوف تقديره : «وما يضلّ به أحدا إلّا الفاسقين» ؛ كقوله : [الطويل]
٣٣٧ ـ نجا سالم والنّفس منه بشدقه |
|
ولم ينج إلّا جفن سيف ومئزرا (٢) |
__________________
(١) معنى الجبر : نفي الفعل عن العبد وإضافته لله ـ تعالى ـ.
وفكرة الجبر ليست عربية ، وقد تلقاها «الجعد من درهم» عن يهوديّ ، وتلقاها عن «الجعد» «جهم بن صفوان».
وقد شاعت هذه الفكرة في أول العصر الأموي ، وانتشرت حتى صارت مذهبا في آخره ، وتنسب فرقة الجبرية إلى «جهم بن صفوان» ؛ لأنه يعتبر أكبر الدعاة لهذه النحلة ، وأعظم أنصارها ؛ ولهذا سميت ب «الجهمية».
وكان مولى ل «بني راسب» من أهل خراسان وأقام ب «الكوفة» ، ولخطابته أثر كبير فيمن تبعه ، وقد ظهر بمذهبه (في ترمذ) ، وكان وزيرا للحارث بن سريح ، ولما خرج «الحارث» على بني أمية ، وهزم على يد «سالم بن أحوز المازني» الذي بعثه عامل الأمويين على خراسان ووقع «الجهم» أسيرا في يده ، فقتله في سنة ١٢٨ ه.
مبادىء الجبرية :
أولا ـ الإنسان مجبور في فعله ، فلا يوصف بالاستطاعة ، ولا قدرة له ولا اختيار ، وإنما يخلق الله فيه الأفعال كما يخلقها في الجمادات.
ثانيا ـ لا يوصف الله بصفة وصف بها خلقه ؛ لأن هذا يقتضي التشبيه ؛ ولهذا نفوا صفات المعاني عن الله ـ تعالى ـ.
ثالثا ـ القول بخلق القرآن ؛ لإنكارهم صفة الكلام.
رابعا ـ وجوب المعرفة بالعقل ، والإيمان هو المعرفة.
خامسا ـ إنكار رؤية الله لما تقتضيه من التشبيه. وغير ذلك كما هو مبسوط في كتب الملل والنحل.
(٢) البيت لحذيفة بن أنس الهذلي ينظر شرح أشعار الهذليين : ٢ / ٥٥٨ ، العقد الفريد : ٥ / ٢٤٤ ، لسان العرب (جفن) ، تذكرة النحاة : ص ٥٢٦ ، جمهرة اللغة : ص ١٣١٩ ، ورصف المباني : ص ٨٦ ، الصاحبي في فقه اللغة : ص ١٣٦ ، المعاني الكبير : ص ٩٧٢ ، المقرب : ١ / ١٦٧ ، الدر المصون ١ / ٠ / ١٦.