وبيان خطأ الاجتهاد أنه لما قيل له : (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) [الأعراف : ١٩] فلفظ «هذه» يشار به إلى الشّخص ، وقد يشار به إلى النوع ، كما روي أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أخذ حريرا وذهبا بيده وقال : «هذان حلال لإناث أمّتي حرام على ذكورها» وأراد به نوعهما ، وتوضأ مرة وقال : «هذا وضوء لا يقبل الله الصّلاة إلّا به» وأراد نوعه ، فلما سمع آدم ـ عليه الصلاة والسلام ـ قوله : (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) ظنّ أن النهي إنما يتناول تلك الشجرة المعينة ، فتركها وتناول من شجرة أخرى من ذلك النوع ، فكان مخطئا في ذلك الاجتهاد ؛ لأن مراد الله ـ تعالى ـ النهي عن النوع لا عن الشخص.
والاجتهاد في الفروع إذا كان خطأ لا يوجب استحقاق العقاب لاحتمال كونه صغيرة مغفورة كما في شرعنا.
فإن قيل : الكلام على هذا القول من وجوه :
أحدها : أن كلمة «هذا» في أصل اللغة للإشارة إلى الشّيء الحاضر ، وهو لا يكون إلا شيئا معينا ، فإن أشير بها إلى النوع ، فذاك على خلاف الأصل ، وأيضا فلأنه ـ تعالى ـ لا تجوز الإشارة عليه ، فوجب أن يكون أمر بعض الملائكة بالإشارة إلى ذلك الشّخص ، فكان ما عداه خارجا عن النهي لا محالة ، وإذا ثبت هذا فالمجتهد مكلف يحمل اللفظ على حقيقته ، فآدم ـ عليه الصلاة والسلام ـ لما حمل لفظ «هذه» على المعيّن كان قد فعل الواجب ، ولا يجوز له حمله على النوع ، وهذا متأيد بأمرين :
أحدهما : أن قوله : (وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما) أفاد الإذن في تناول كل ما في الجنّة إلا ما خصه الدليل.
والثاني : أن العقل يقتضي حلّ الانتفاع بجميع المنافع إلّا ما خصّه الدليل ، والدليل المخصص لم يدلّ على ذلك المعيّن ، وإذا ثبت هذا امتنع أن يستحقّ بسبب تناول غيره وإن كان من ذلك النوع المنهي عنه عتابا ، فوجب على هذا أن يكون مصيبا لا مخطئا.
الاعتراض الثاني : هب أن لفظة «هذه» مترددة بين الشخص والنوع ، ولكن هل قرن الله بهذا اللّفظ ما يدلّ على أن المراد منه النوع دون الشخص أو لا؟
فإن قرن به ، فإما أن يقال : إن آدم ـ عليه الصلاة والسلام ـ قصر في معرفة ذلك البيان ، فحينئذ يكون قد أتى بالذّنب ، وإن لم يقصر بل عرفه ، فحينئذ يكون إقدامه على التّناول من شجرة من ذلك النوع إقداما على الذنب قصدا.
الاعتراض الثالث : أن الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ لا يجوز لهم الاجتهاد ؛ لأن الاجتهاد إقدام على العمل بالظنّ وذلك إنما يجوز في حقّ من لا يتمكن من تحصيل العلم ، أمّا الأنبياء فإنهم قادرون على تحصيل اليقين ، فوجب ألا يجوز لهم الاجتهاد ؛ لأن الاكتفاء بالظن مع القدرة على تحصيل اليقين غير جائز عقلا وشرعا ، وذا ثبت ذلك ثبت أن الإقدام على الاجتهاد معصية.