ودعوتهم إلى كتاب الله باعتبار أنه جامع لكثير ما ورد في الكتب الإلهيّة المهيمن عليها ، وقد بشّرت به ، فلم يكن مجهولا عندهم ، يعرفه أهل الكتاب بأنه يحكم بالحقّ ويزيل كلّ لبس وجهالة ويمنعهم عن البغي والتعدّي ، فيكون حكمه نافذا ويجب اتباعه ، والداعي إلى الكتاب هو الله تعالى بلسان نبيّه. ولو نظرنا إلى حاق الواقع يكون الداعي إلى كتاب الله والمدعو إليه والمدعو به واحد ، والفرق إنما هو بالاعتبار ، ولعلّه تعالى إنما أجمل الدعوة لأجل هذه الجهة.
قوله تعالى : (ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ).
أي : أنهم إذا دعوا إلى حكم الكتاب يتولّى كثير منهم ، اغترارا بما عندهم وما حرّفوه ووضعوه من عند أنفسهم ، واستغناء به ، وهم قد أعرضوا عن الحقّ ودلائله الواضحة.
وفيها دلالة على أن التولّي لا يكون إلّا عن البغي والجحود بعد معرفتهم الحقّ وعلمهم بالحجّة ، فلا يرجى زواله إلّا من ثبت إيمانه في قلبه فدعى إلى إجابة الدعوة التي دعا إليها دينهم وأمرت به عقيدتهم ، من الخضوع لأحكام الله تعالى والإيمان بالدين الجديد ، فالآية الشريفة تثبت جهتين من المذمّة عليهم :
الأولى : إدبارهم عن استماع الحقّ وعدم اجتماعهم على الحقّ ، مع أنه واجب عقلا ، وقد دعا إليه دينهم.
الثانية : إعراضهم عن الحقّ بقلوبهم وضمائرهم ، بعد ظهور الحجّة عليهم ، وهذا هو الشقاق والنفاق ومن أخبث الرذائل.
قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ).
أي : أن تولّيهم عن الحقّ بأبدانهم وإعراضهم عنه بقلوبهم ، وعنادهم لما عرفوه من الحقّ ، إنما هو لأجل زعمهم الفاسد ووهمهم الكاسد وافترائهم على الله بأنهم عباد الله الأخيار ، وهذه الفريّة إنما كانت معتقد عامّة بني إسرائيل في التأريخ وقد استحكمت هذه الفريّة في أنفسهم على مرّ الدهور ، بحيث سلبتهم الفكر عن البحث حولها فمنعتهم عن التسليم للحقيقة والواقع والخضوع للحق.