نسبته إليه عزوجل لأنه منزّه عن المكر والخديعة ، فلا يطلق عليه تعالى إلا عن طريق المشاكلة ، وقالوا إنّ كلّ مورد ورد فيه المكر منسوبا إليه عزوجل يحمل على الاستعارة ، وهي تسمية جزاء المكر مكرا مقابلة كما هو المعروف عند العرب ، مثل قوله تعالى : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) [سورة البقرة ، الآية : ١٩٤] ، وقوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [سورة الشورى ، الآية : ٤٠] ، وغيرهما من الآيات الشريفة ، وهذا القول منهم مبني على استعمال المكر في المعنى السيء فقط ، وهو المساوق للخديعة والشرّ ، فيكون قبيحا والله تعالى منزّه عنه ، ولكن استعمال القرآن الكريم يأبى ذلك كما عرفت ، مضافا إلى أنه استعمال اللفظ في المعنى الحقيقي والمجازي معا ، وهو غير صحيح.
وقيل : إنه يجوز إطلاق المكر عليه تعالى كما اطلق على غيره من أفراد الإنسان من دون مشاكلة أو الخروج عن المعنى الحقيقي ، وأصحاب هذا القول اختلفوا في توجيه المكر بالنسبة إليه عزوجل ، وجميع ما قيل في ذلك لم يقم عليه دليل يصحّ الاعتماد عليه.
والصحيح أن يقال : إنّ المكر في الأصل يطلق على كلّ ما يصرف الإنسان عن مقصوده خفية وسرّا ، وبهذا المعنى يصحّ إطلاقه عليه عزوجل بلا محذور فيه من عقل أو نقل ، لفرض أن جميع أسرار إرادته المقدّسة مخفيّة عن من سواه ، وهو عبارة اخرى عن التدبير الأتم بما تقتضيه الحكمة المتعالية بأعمال خفية لا يعلمها الإنسان ، فيجازي الظالمين على ظلمهم والماكرين بمكرهم ، ويحسن إلى المحسنين بما يوافق اللطف ، ويؤيّد هذا المعنى ما ورد في بعض الدعوات المأثورة : «إلهي لا تؤدبني بعقوبتك ولا تمكر بي في حيلتك» ، وفي الحديث : «اللهم امكر لي ولا تمكر بي» ، ومعنى الحديث : ألحق مكرك بأعدائي لا بي ، فإن مكره جلّ شأنه إيقاع بلائه بأعدائه دون أحبّائه وأوليائه.
والمراد بمكر بني إسرائيل في المقام اعمالهم جهات النفاق مع عيسى عليهالسلام ، كما حكى الله تعالى عنهم مع أنبياء الله تعالى في آيات اخرى ، مثل تحريف الكلم عن