هذا ، وقد تولّى كتّاب السيرة كتابتها ـ كما مر خبرها ـ للخلفاء : فابن إسحاق كتب سيرته للمنصور وابنه المهدي ، والواقدي كتب مغازيه للرشيد ووزيره يحيى بن خالد البرمكيّ ، اللهمّ إلّا هشام الكلبي والمدائني فإنّهما لم يكتبا لأحد منهم ، ولكنّهم كلهم ما كان لهم أن ينازعوا مع الخليفة في آرائه خوفا منه ، ولذلك فإنّه لا ينطبق على ما كتبوه مقاييس الصحة بدقّة.
ومن أمثلة الاختلاف في النقل الّذي يبدأ بذكر معجزة نراها تزيد بزيادة الزمان إلى معاجز : ما حدث في أثناء مسيرة جيش العسرة إلى تبوك :
فقد روى ابن هشام قال : «قال ابن إسحاق : فلمّا أصبح الناس ولا ماء معهم شكوا ذلك إلى رسول الله ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ فدعا رسول الله ، فأرسل الله سحابة فأمطرت حتّى ارتوى الناس واحتملوا حاجتهم من الماء» (١).
أمّا صحيح مسلم فيروي قصّة تبوك بصورة اخرى لا تقتصر على هذه المعجزة بل تزيدها زيادة كثيرة على غير ما ورد في سيرة ابن إسحاق :
فقد روى مسلم في صحيحه بسنده عن معاذ بن جبل : «أنّ النبيّ قال لمن سار معه إلى تبوك : إنّكم ستأتون ـ إن شاء الله ـ غدا عين تبوك ، وإنّكم لن تأتوها حتّى يضحى النهار ، فمن جاءها منكم فلا يمسّ من مائها شيئا حتّى آتي. فجئناها وقد سبقنا إليها رجلان ، والعين مثل الشرك تبضّ بشيء من ماء. فسألهما رسول الله : هل مسستما من مائها شيئا؟ قالا : نعم ، فسبّهما النبيّ وقال لهما ما شاء الله أن يقول (!) ثمّ غرفوا بأيديهم من العين قليلا قليلا حتّى اجتمع في شيء غسل رسول الله فيه يديه ووجهه ثمّ أعاده فيها فجرت العين بماء منهمر ـ أو قال : غزير ـ حتّى استقى الناس ، ثمّ قال : يا معاذ يوشك ـ إن طالت بك الحياة ـ أن ترى ما هاهنا قد ملئ
__________________
(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٧٣.