وتحرير الولد لله تعالى أو للأمكنة المقدّسة ، أو النفوس المحترمة ، هو التفرّغ للعبادة والعمل للآخرة ، قد كان متعارفا في الأمم القديمة ، وكانوا يعتبرون ذلك وسيلة لحفظ الولد عن الضياع والتربية الحسنة وعبادة الله الواحد القهّار ، فلا يتزوج ولا يعمل للدنيا.
ومعنى التحرير في تلك الأزمنة كان هو تحرير الولد من قبل الأبوين ، أي : تحريره عن التبعيّة لهما والولاية عليه ، فليس لهما بعد التحرير السلطنة على الولد في استخدامه لاغراضهما ، بل هو داخل بالنذر تحت ولاية الله تعالى ، فلا بد من صرف خدمته في سبيله عزوجل ، إما في التفريغ لعبادته تعالى أو خدمة الأماكن المقدّسة والنفوس المحترمة ، وهذا العمل كان جائزا في الشرائع الإلهيّة السابقة ، ويعتبرون ذلك من نذر الأبرار.
واللام في «لك» للتعليل ، أي لعبادتك وخدمتك ، ويدلّ قوله تعالى : (ما فِي بَطْنِي) ، على أنها كانت حاملا حين ما قالت هذا القول ، وكان الحمل من عمران ، كما تدلّ الآية على أنها كانت تعتقد أن ما في بطنها ذكرا لا أنثى ، فإن كلامها على نحو البت والجزم ، لا نحو التعليق.
وتذكير (محرّرا) لا يدلّ على كونها نذرت ما في بطنها كائنا من كان ـ ذكرا أو أنثى ـ وإلا لما كان وجه لتحسّرها وحزنها كما حكى عنها عزوجل : (رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى) ، ولما كان معنى لقوله تعالى : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى).
وحكاية الله تعالى هذه المناجاة عنها تدلّ على أنها لم تكن من غير فكر وجزافا ، أو كان لأجل الظن الحاصل عن العادة المتّبعة في تلك الأعصار ، بل أنها تدلّ على أنها تنتهي إما إلى إلهام من الله تعالى إليها ، أو غاية العبوديّة والإخلاص منها لله تعالى ونهاية الانقطاع له عزوجل ، وعلى كلّ منهما ، فهي تدلّ على كون هذه المرأة كاملة وأنها من الأبرار الصالحات ، وفي ذلك سرّ إلهي يدلّ على تحقّق العبوديّة لله تعالى في جدّة عيسى وامه ونفسه ، فتفخر الجدّة بأنها نذرت ما في