فاتّخذت له قطعتي لبود تواريان أضراسه ، وتنشفان دموعه ، فبكى حتى ابتلتا من دموع عينيه. فحسر عن ذراعيه ، ثم أخذهما فعصرهما ، فتحدرت الدموع من بين أصابعه ، فنظر زكريا إلى ابنه ، وإلى دموع عينيه ، فرفع رأسه إلى السماء ، فقال : اللهم إن هذا ابني ، وهذه دموع عينيه ، وأنت أرحم الراحمين.
وكان زكريّا عليهالسلام إذا أراد أن يعظ بني إسرائيل يلتفت يمينا وشمالا ، فإن رأى يحيى عليهالسلام لم يذكر جنّة ولا نارا ، فجلس ذات يوم يعظ بني إسرائيل ، وأقبل يحيى وقد لفّ رأسه لعباءة ، فجلس في غمار الناس ، والتفت زكريا يمينا وشمالا فلم ير يحيى عليهالسلام ، فأنشأ يقول : حدّثني حبيبي جبرئيل عن الله تبارك وتعالى : أن في جهنم جبلا يقال له السكران ، وفي أصل ذلك الجبل واد يقال له الغضبان ، لغضب الرحمن تبارك وتعالى ، في ذلك الوادي جبّ قامته مائة عام ، في ذلك الجبّ توابيت من نار ، في تلك التوابيت صناديق من نار ، وثياب من نار ، وسلاسل من نار ، وأغلال من نار.
فرفع يحيى عليهالسلام رأسه ، فقال : واغفلتاه عن (السكران). ثم أقبل هائما على وجهه ، فقام زكريا عليهالسلام من مجلسه ، فدخل على أم يحيى ، فقال لها : يا أمّ يحيى ، قومي فاطلبي يحيى ، فإني قد تخوّفت أن لا نراه إلا وقد ذاق الموت. فقامت ، فخرجت في طلبه حتى مرّت بفتين من بني إسرائيل ، فقالوا لها : يا أم يحيى ، أين تريدين؟ قالت : أريد أن أطلب ولدي يحيى ، ذكرت النار بين يديه ، فهام على وجهه.
فمضت أم يحيى والفتية معها ، حتى مرّت براعي غنم ، فقالت له : يا راعي ، هل رأيت شابا من صفته كذا وكذا؟ فقال لها : لعلّك تطلبين يحيى بن زكريا؟ قالت : نعم ، ذاك ولدي ، ذكرت النار بين يديه ، فهام على وجهه ، فقال : إني تركته الساعة على عقبه ثنيّة كذا وكذا ، ناقعا قدميه في الماء ، رافعا نظره إلى السماء ، يقول : وعزّتك ـ يا مولاي ـ لا ذقت بارد الشراب حتى أنظر