ولعلّ الذين تناولوا السيرة بالتلخيص والاختصار ، إنّما خفّفوا من ثقل الكتاب بعض أخباره الّتي استبعدوها غير مؤمنين بصحّتها ، ناقلين من الأخبار ما يرون فيها القرب من الحقّ ، ومستبعدين ما لا يجري في ذلك مع فكرتهم وعقيدتهم مفنّدين إياه رادّين له.
ولعلّ من علل انتشار أخبار ابن إسحاق ثمّ كتابه في السيرة كثرة رحلاته ، فالراجح في تأريخ مولده في المدينة أنّه كان سنة ٨٥ ه ولا يرتاب الرجاليّون وأصحاب الطبقات في أنّه أمضى شبابه في المدينة فتى جميلا «فارسي الخلقة» جذّاب الوجه له شعرة حسنة ولذلك حكى ابن النديم بشأنه في فهرسته : أنّه اتّهم بأنّه يجلس في مؤخّر المسجد للصلاة فيغازل بعض النساء ، فأمر أمير المدينة بإحضاره وضربه اسواطا ونهاه عن الجلوس في مؤخّر المسجد. ولعلّه لهذا لم يرو عنه من أهل المدينة غير راو واحد هو إبراهيم بن سعد فحسب (١).
ولعلّه لهذا رحل منها سنة ١١٥ ه أي في الثلاثين من عمره إلى الاسكندرية في مصر ، ويظن أنّها اولى رحلاته ، فانفرد برواية أحاديث عن عدة من رجال الحديث بها.
ثمّ رحل إلى الكوفة والحيرة ، ولعلّه بها التقى بالمنصور فصنّف لابنه المهدي كتاب السيرة كما سبق ، فرواها عنه زياد بن عبد الملك البكّائي العامري وغيره ، ورحل إلى الجزيرة أي الموصل ، والرّي حتّى إذا بنيت بغداد فرجع إليها وفيها ألقى عصا الترحال ، وله من كلّ هذه البلدان رواة كثيرون. وعاش في بغداد حتّى توفي بها فدفن في مقابر الخيزران.
وقد كان ابن إسحاق يعدّ في طبقة تلامذة عبد الملك بن شهاب الزهري وأقرانه ، وله عنه روايات ، ونقل أصحاب الطبقات أنّ شيخه ابن شهاب الزهري
__________________
(١) وانظر تهذيب التهذيب ٩ : ٤٤.