والباحث في التأريخ إن كان يطمح من بحثه إلى إحقاق الحقّ وازهاق الباطل ، فإنّه لا يتسنى له ذلك إلّا إذا كان واسع الاطلاع ، بعيد النظر ، شديد الحب للحق ، موطّنا نفسه على اتّباعه ، مبتعدا عن التعصب المذهبيّ المقيت ، ورعا في إصدار الأحكام ، خبيرا بطرق الاستنباط ، عارفا بأمراض التأريخ وعلله ، ملمّا بظروفه ومراحله ، مؤثرا مصلحة الإسلام والمسلمين على ما سواها ، متحرر الفكر ، غير مشدود لما ورثه من أهله وقومه.
وذلك لمساس التأريخ ـ ولا سيّما سيرة الرسول الكريم ـ بمختلف نواحي الحياة. فمنه تؤخذ العقيدة الدينية ، وأحكام الإسلام ، ومعارفه وعلومه ، وأدبه وأخلاقه ، وعلى أساسه تقول الأجيال كلمتها في كل شيء ، وعلى ضوئه تحكم على كل شيء.
وقد ابتلي التأريخ والسيرة ـ ككثير من الامور ـ بنظرتين مفرطة واخرى مفرّطة : فمن مقبل على التأريخ والسيرة مكبّ على أخذ ما فيه ، غثّه وسمينه ، ينتهل منه ريّه في كلّ جوانب الحياة ، ويعتبره من أسلم المسلّمات بها ، دون حذر عمّا داخله من الدسّ والخرافات بعيدا عمّا نبّه إليه الرسول من حتميّة ظهور المفترين عليه ، غير معتبر بما اعترف به الزنادقة الملحدون ممّا رواه المؤرخون : أنّهم وضعوا آلاف الأحاديث كذبا على الله ورسوله حلّلوا بها الحرام وحرّموا بها الحلال ، وأزالوا بها الحقّ عن نصابه ، وزوّروا كثيرا من الأحاديث الصحيحة وافتعلوا الكرامات والمناقب حبّا في المال والمناصب.
وآخرون فرّطوا فيه فغلّبوا التشاؤم وتنكّروا للتأريخ جملة وتفصيلا ، اتهموه ببعض ما فيه وتحاملوا عليه ، وجعلوا ذلك حجة لاعراضهم عنه وابتعادهم منه. وذلك ظلم قبيح وفصم لعرى الأجيال ، وحرمان للمتأخرين من دروس الماضي ، وهدم لبناء الدّين وطعن في تعاليم الأنبياء الّذين حثّوا على تدارس الماضي والاستماع إليه ، مع تمحيص الحقّ عمّا علق به من شوائب الباطل.