ثمّ عجب ممّن يدّعي الربوبيّة لهما مع أمثال هذه الأدلّة الظاهرة ، فقال : (انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ) الأعلام ، من الأدلّة الظاهرة على بطلان قولهم (ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) كيف يصرفون عن استماع الحقّ وتأمّله. و «ثمّ» لتفاوت ما بين العجبين ، أي : بياننا للآيات عجب ، وإعراضهم عنها أعجب.
(قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) المعنيّ بقوله : (ما لا يَمْلِكُ) عيسى عليهالسلام. وهو وإن ملك ذلك بتمليك الله إيّاه ، لا يملكه من ذاته ، ولا يملك مثل ما يضرّ الله به من البلايا والمصائب ، وما ينفع به من الصحّة والسعة. وإنّما قال : «ما» نظرا إلى ما هو عليه في ذاته ، توطئة لنفي القدرة عنه رأسا ، وتنبيها على أنّه من هذا الجنس ، ومن كان هذا حقيقته فبمعزل عن الألوهيّة. وإنّما قدّم الضرّ ، لأنّ التحرّز عنه أهمّ من تحرّي النفع.
(وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) بالأقوال والعقائد ، فيجازي عليها إن خيرا فخير ، وإن شرّا فشرّ.
(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِ) صفة للمصدر ، أي : غلوّا باطلا ، بأن تتجاوزوا الحدّ الّذي حدّه الله لكم إلى الازدياد. وضدّه التقصير ، أي : الخروج عن الحدّ إلى النقصان. فترفعوا عيسى إلى أن تدّعوا له الإلهيّة ، أو تضعوه فتزعموا أنّه لغير رشدة ، بل اتّبعوا الاقتصاد. وقيل : الخطاب للنصارى خاصّة.
(وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ) يعني : أسلافهم وأئمّتهم الّذين قد ضلّوا قبل مبعث محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم في شريعتهم (وَأَضَلُّوا كَثِيراً) باقتفائهم على بدعهم وضلالهم ، بعد دعائهم وإغوائهم إيّاهم (وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) عن قصد السبيل الذي هو الإسلام بعد مبعثه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، لمّا كذّبوه وبغوا عليه. وقيل : الأوّل إشارة إلى ضلالهم عن مقتضى العقل ، والثاني إشارة إلى ضلالهم عمّا جاء به الشرع.