يحكيه على ما يقوله الخصم ، ثمّ يكرّ عليه بالإفساد ، فإنّ قومه كانوا يعبدون الأصنام والشمس والقمر والكواكب ، فأراد أن ينبّههم على خطئهم ، ويرشدهم ويبصّرهم طريق النظر والاستدلال ، ليعرفوا أنّ شيئا منها لا يصحّ أن يكون إلها ، لو وضح دلالة الحدوث فيها ، فقال : هذا ربّي ، قول من ينصف خصمه ، ويماشي قوله ، مع علمه بأنّه مبطل ، فيحكي قوله كما هو غير متعصّب لمذهبه ، ليكون ذلك أدعى إلى الحقّ ، وأدفع لتهيّج الشرّ والشغب (١).
(فَلَمَّا أَفَلَ) أي : غاب (قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) أي : لا أحبّ عبادة الأرباب المتغيّرين من حال إلى حال ، المنتقلين من مكان إلى مكان ، فإنّ ذلك من صفات الأجسام ، ودليل الحدوث والإمكان ، فضلا عن عبادتهم. فلمّا كان الانتقال والاحتجاب بالأستار يقتضي الإمكان والحدوث فيكون منافيا للألوهيّة.
(فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً) مبتدئا في الطلوع (قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) استعجز نفسه ، واستعان بربّه في درك الحقّ ، فإنّه لا يهتدي إليه إلّا بتوفيقه ولطفه ، إرشادا لقومه ، وتنبيها لهم على أنّ القمر ايضا لتغيّر حاله لا يصلح للألوهيّة ، وأنّ من اتّخذه إلها فهو ضالّ.
(فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي) تذكير اسم الإشارة لتذكير الخبر ، وإن كان إشارة إلى الشمس ، وصيانة للربّ عن شبهة التأنيث ، الا تراهم لم يقولوا : الله سبحانه علّامة ، وإن كان علّامة أبلغ من علّام ، احترازا عن علامة التأنيث. (هذا أَكْبَرُ) كبّره استدلالا ، أو إظهارا لشبهة الخصم ، من باب استعمال الإنصاف مع الخصوم.
(فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) من الأجرام المحدثة المحتاجة إلى محدث يحدثها ، الّتي تجعلونها شركاء لخالقها.
__________________
(١) في هامش النسخة الخطّية : «الشغب ـ بتسكين الغين ـ تهييج الفتن. منه».