السابع : أنّا بيّنا أنه ـ تعالى ـ إنّما خلق اللّبن من فضلة الدّم ، وإنما خلق الدّم من الغذاء الذي يتناوله الحيوان ، فالشّاة لمّا تناولت العشب ، وتولّد منه الدم ، وتولّد اللبن من بعض أجزاء ذلك الدّم ، ثمّ إنّ اللبن حصلت فيه أجزاء ثلاثة على طبائع متضادة ، فما فيه من الدهن يكون حارا رطبا ، وما فيه من المائيّة يكون باردا رطبا ، وما كان فيه من الجبنية يكون باردا يابسا ، وهذه الطبائع ما كانت حاصلة في العشب الذي تناولته الشّاة ، فظهر بهذين أنّ هذه الأجسام لا تزال تنقلب من صفة إلى صفة ، ومن حالة إلى حالة ، مع أنّه لا يناسب بعضه بعضا ، ولا يشاكل بعضه بعضا ، وعند ذلك فإنّ هذه الأحوال إنما تحدث بتدبير فاعل مختار حكيم رحيم ، يدبّر أحوال هذا العالم على وفق مصالح العباد.
قال المحققون ـ رضي الله عنهم ـ : اعتبار حدوث اللّبن كما يدلّ على وجود الصّانع المختار ، فكذلك يدل على إمكان الحشر والنشر ؛ لأنّ العشب الذي يأكله الحيوان إنّما يتولد من الماء والأرض ، فخالق العالم دبّر تدبيرا آخر ، فقلب ذلك العشب دما ، ثم دبّر تدبيرا آخر فقلب ذلك الدّم لبنا خالصا ، ثمّ أحدث من ذلك اللبن الدهن والجبن ، وهذا الاستقرار يدل على أنه ـ تعالى ـ قادر على تقليب هذه الأجسام من صفة إلى صفة ، ومن حالة إلى حالة ، وإذا كان كذلك ، لم يمتنع أيضا أن يكون قادرا على قلب أجزاء أبدان الأموات إلى صفة الحياة والعقل كما كانت قبل ذلك ، فبهذا الاعتبار يدلّ من هذا الوجه على أنّ البعث والقيامة أمر ممكن غير ممتنع.
قوله : (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ) فيه أربعة أوجه :
أحدها : أنّه متعلق بمحذوف ، فقدّره الزمخشري : ونسقيكم من ثمرات النّخيل والأعناب ، أي : من عصيرها ؛ وحذف لدلالة «نسقيكم» قبله عليه قال : «وتتّخذون بيان وكشف عن كيفية الإسقاء».
وقدّره أبو البقاء : خلق لكم أو جعل لكم ـ وما قدّره الزمخشري أليق.
لا يقال : لا حاجة إلى تقدير نسقيكم ، بل قوله : (وَمِنْ ثَمَراتِ) عطف على قوله : (مِمَّا فِي بُطُونِهِ) فيكون عطف بعض متعلقات الفعل الأوّل على بعض ؛ كما تقول : سقيت زيدا من اللّبن ومن العسل ، فلا يحتاج إلى تقدير فعل قبل قولك : من العسل.
لا يقال ذلك ؛ لأن «نسقيكم» الملفوظ به وقع تفسير ل «عبرة» الأنعام ، فلا يليق تعلّق هذا به ؛ لأنه ليس من العبرة المتعلّقة بالأنعام.
قال أبو حيان (١) : وقيل : متعلق ب «نسقيكم» فيكون معطوفا على (مِمَّا فِي بُطُونِهِ) أو : ب «نسقيكم» محذوفة دلّ عليها «نسقيكم» انتهى.
ولم يعقبه تنكير ، وفيه ما تقدّم.
__________________
(١) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٤٩٤.