الإنسان غذاء ، أو شربة رقيقة ؛ انطبق ذلك المنفذ انطباقا كليّا ، لا يخرج منه شيء من ذلك المأكول ، والمشروب إلى أن يكمل انهضامه في المعدة ، وينجذب ما صفا منه إلى الكبد ، ويبقى الثقل هناك ، فحينئذ ينفتح ذلك المنفذ ، وينزل منه ذلك الثقل ، وهذا من العجائب التي لا يمكن حصولها إلا بتدبير الفاعل الحكيم ؛ لأنه متى كانت الحاجة إلى خروج ذلك الجسم من المعدة انفتح فحصل الانطباق تارة ، والانفتاح أخرى ، بحسب الحاجة ، وتقدير المنفعة ممّا لا يتأتّى إلا بتدبير الفاعل الحكيم.
الثاني : أنّه ـ تعالى ـ أودع في الكبدة قوة ، تجذب الأجزاء اللطيفة الحاصلة في ذلك المأكول ، والمشروب ، ولا تجذب الأجزاء الكثيفة ، وخلق في الأمعاء قوّة تجذب تلك الأجزاء الكثيفة التي هي الثقل ، ولا تجذب الأشياء اللطيفة ألبتّة ، ولو كان الأمر بالعكس ، لاختلفت مصلحة البدن ، ولفسد نظام هذا التركيب.
الثالث : أنه ـ سبحانه وتعالى ـ أودع في الكبد قوّة هاضمة طابخة ، حتّى إنّ تلك الأجزاء اللطيفة ؛ تنطبخ في الكبد ، وتنقلب دما ، ثمّ إنّه ـ تعالى ـ أودع في المرارة قوّة جاذبة للصّفراء ، وفي الطحال قوّة جاذبة للسّوداء ، وفي الكلية قوّة جاذبة لزيادة المائيّة ، حتى يبقى الدم الصّافي الموافق لتغذية البدن ، وتخصيص كلّ واحد من هذه الأعضاء بتلك القوّة الحاصلة ، لا يمكن إلا بتدبير الحكيم العليم.
الرابع : أنّ في الوقت الذي يكون الجنين في رحم الأم ينصب من ذلك الدم نصيب وافر إليه حتى يصير مادة تنمي أعضاء ذلك الولد ، وازدياده ، فإذا انفصل ذلك الجنين عن الرّحم ينصب ذلك النّصيب إلى جانب الثّدي ليتولد منه اللبن الذي يكون غذاء له ، فإذا كبر ذلك الولد لم ينصب ذلك النّصيب لا إلى الرّحم ، ولا إلى الثدي ، بل ينصبّ على مجموع بدن المتغذي ، فانصباب ذلك الدّم في كلّ وقت إلى عضو آخر انصبابا موافقا للمصلحة ، والحكمة لا يتأتّى إلّا بتدبير الفاعل المختار الحكيم.
الخامس : أنّ عند تولد اللّبن في الضرع أحدث ـ تعالى ـ في حلمة الثّدي ثقوبا صغيرة ومسامّا ضيّقة ، وجعلها بحيث إذا اتّصل المصّ ، أو الحلب بتلك الحملة ، انفصل اللّبن عنها من تلك المسامّ الضيّقة ، ولما كانت تلك المسامّ ضيّقة جدّا ، فحينئذ لا يخرج منها إلا ما كان في غاية الصّفاء ، واللّطافة ، وأمّا الأجزاء الكثيفة فإنّه لا يمكنها الخروج من تلك المنافذ الضيّقة فتبقى في الدّاخل ، والحكمة في إحداث تلك الثّقوب الصّغيرة والمنافذ الضيّقة في رأس الحملة ؛ لكي تكون كالمصفاة ، فكل ما كان لطيفا خرج ، وما كان كثيفا ؛ احتبس في الدّاخل ، فبهذا الطريق يصير ذلك اللّبن خالصا موافقا لبدن الصّبي (سائِغاً لِلشَّارِبِينَ).
السادس : أنه ـ تعالى ـ ألهم ذلك الصبي إلى المص ؛ فإنّ الأم إذا ألقت حلمة الثّدي في فم الصبي ، فذلك الصبيّ في الحال يأخذ في المص ، ولولا أنّ الفاعل المختار الرحيم قد ألهم ذلك الطفل الصغير ذلك العمل المخصوص ، وإلا لم يحصل تخليق ذلك اللبن في الثّدي.