وهذا نوع آخر من التّهديد ، والأمة عبارة عن القرن والجماعة ، والمراد أن كلّ نبيّ شاهد على أمّته ؛ لأن الأنبياء كانت تبعث إلى الأمم من أنفسهم لا من غيرهم.
وقيل : المراد أن كل جمع وقرن يحصل في الدنيا ، فلا بدّ وأن يحصل فيهم واحد يكون شهيدا عليهم ، أمّا الشّهيد على الذين كانوا في عصر الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ فهو الرسول ؛ لقوله ـ تعالى ـ : (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) وقوله : (وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ).
وقال الأصم : المراد بالشّهيد هو أنّه ـ تعالى ـ ينطق عشرة من أعضاء الإنسان تشهد عليه ، وهي : الأذنان ، والعينان ، والرجلان ، واليدان ، والجلد واللسان.
قال : والدّليل عليه أنه قال في صفة الشّهيد أنّه من أنفسهم ، وهذه الأعضاء لا شكّ أنها من أنفسهم.
وأجاب القاضي عنه : بأنه ـ تعالى ـ قال : (شَهِيداً عَلَيْهِمْ) ، أي : على الأمّة ، فيجب أن يكون غيرهم ، وأيضا قال : «من كل أمة» فيجب أن يكون ذلك الشّهيد من الأمّة ، وآحاد الأعضاء لا يصح وصفها أنها من الأمة ، وأما حمل الشهداء على الأنبياء ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ فبعيد ؛ لأن كونهم مبعوثين إلى الخلق أمر معلوم بالضّرورة ، فلا فائدة في حمل هذه الآية عليه.
قوله : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً) يجوز أن يكون «تبيانا» في موضع الحال ، ويجوز أن يكون مفعولا من أجله ، وهو مصدر ولم يجىء من المصادر على هذه الزّنة إلا لفظتان : هذا والتّلقاء ، وفي الأسماء كثيرا ، نحو «التّمساح والتّمثال» وأما المصادر فقياسها فتح الأول ؛ دلالة على التكثير ك «التّطواف» و«التّجوال».
وقال ابن عطية : إنّ «التّبيان» اسم وليس بمصدر والنحويّون على خلافه.
قال شهاب الدّين (١) ـ رحمهالله ـ : وقد روى الواحديّ بإسناده ، عن الزجاج أنه قال : «التّبيان» اسم في معنى البيان.
وجه تعلّق هذا الكلام بما قبله : أنه ـ تعالى ـ قال : (وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ) ، أي : أنه أزاح علتهم فيما كلّفوا ، فلا حجّة لهم ولا معذرة.
وقال نفاة القياس : دلّت هذه الآية على أنّ القرآن تبيان لكل شيء ، والعلوم إمّا دينية ، أو غير دينية ، فالتي ليست دينية ، لا تعلّق لها بهذه الآية ؛ لأنّا نعلم بالضرورة أنه تعالى إنما مدح القرآن بكونه مشتملا على علوم الدين ، وأمّا غير ذلك ، فلا التفات إليه ، وأما علوم الدّين : فإمّا الأصول ، وإما الفروع.
__________________
(١) ينظر : الدر المصون ٤ / ٣٥٤.