الكفر ، لقدر عليه ، إلّا أنّ ذلك يبطل التّكليف ، فلا جرم ما ألجأهم إليه ، وفوّض الأمر إلى اختيارهم ، وقد تقدّم البحث في ذلك.
وروى الواحدي رحمهالله : أنّ عزيرا قال : ربّ ، خلقت الخلق فتضلّ من تشاء وتهدي من تشاء ، فقال : يا عزير ، أعرض عن هذا ، فأعاده ثانيا ، فقال : يا عزير أعرض عن هذا ، فأعاده ثالثا ، فقال : أعرض عن هذا وإلا محوت اسمك من [ديوان](١) النبوّة.
قالت المعتزلة (٢) : ومما يدلّ على أن المراد من هذه المشيئة مشيئته الإلجاء أنه ـ تعالى ـ قال بعده : (وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فلو كانت أعمال العباد بخلق الله ـ تعالى ـ ، لكان سؤالهم عنها عبثا ، وتقدّم جوابه.
قوله ـ تعالى ـ : (وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ) الآية لمّا حذّر في الآية الأولى عن نقض العهود والأيمان مطلقا ، قال في هذه الآية : (وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ) وليس المراد منه التّحذير عن نقض مطلق الأيمان ، وإلّا لزم التكرار الخالي عن الفائدة في موضع واحد ، بل المراد نهي أولئك الأقوام المخاطبين بهذا الخطاب عن بعض أيمان مخصوصة أو أقدموا عليها.
فلهذا قال المفسرون : المراد : نهي الذين بايعوا الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ عن نقض عهده ؛ لأن قوله : (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها) لا يليق بنقض عهد قبله ، وإنما يليق بنقض عهد رسول الله صلىاللهعليهوسلم على الإيمان به وبشرائعه.
وقوله ـ تعالى ـ : فنزل (قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها) منصوب بإضمار «أن» على جواب النهي.
وهذا مثل يذكر لكل من وقع في بلاء بعد عافية ، أو سقط في ورطة بعد سلامة ، أو محنة بعد نعمة.
قوله : (بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) «ما» مصدرية ، و«صددتّم» يجوز أن يكون من الصّدود ، وأن يكون من الصدّ ، ومفعوله محذوف ، ونكّرت «قدم» ؛ قال الزمخشري «فإن قلت : لم وحّدث القدم ونكّرت؟.
قلت : لاستعظام أن تزلّ قدم واحدة عن طريق الحقّ بعد أن ثبتت عليه ، فكيف بأقدام كثيرة؟».
قال أبو حيّان (٣) : «الجمع تارة يلحظ فيه المجموع من حيث هو مجموع ، وتارة يلحظ فيه اعتبار كل فرد فرد ، فإذا لوحظ فيه المجموع ، كان الإسناد معتبرا فيه الجمعيّة ، وإذا لو حظ فيه كل فرد فرد ، فإنّ الإسناد مطابق للفظ الجمع كثيرا ، فيجمع ما أسند إليه ، ومطابق لكل فرد فرد فيفرد ؛ كقوله : (وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ) [يوسف : ٣١] لما كان
__________________
(١) زيادة من : أ.
(٢) ينظر : الفخر الرازي ٢٠ / ٨٨.
(٣) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٥١٥.