فإن قيل : دلت الآية على أنّ شراب الخلق ليس إلّا من المطر ، ومن المعلوم أنّ الخلق يشربون من المياه التي في قعر الأرض ؛ وأجاب القاضي ـ رحمهالله ـ : بأنه تعالى بين أنّ المطر شرابنا ، ولم ينف أن نشرب من غيره.
وأجاب غيره : بأنه لا يمتنع أن يكون الماء العذب تحت الأرض من جملة ما ينزل من السماء ؛ لقوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) [المؤمنون : ١٨] ولا يمتنع أيضا في العذاب من الأنهار أن يكون أصلها من المطر.
والقسم الثاني من المياه النازلة من السماء ما يجعله الله سببا لتكوين النبات ، وهو قوله (وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ).
قوله : «لكم» يجوز أن يتعلق ب «أنزل» ويجوز أن يكون صفة ل «ماء» فيتعلق بمحذوف ، فعلى الأول يكون [«شراب» مبتدأ ، و«منه» خبره مقدم عليه ، والجملة أيضا صفة ل «ماء» ، وعلى الثاني يكون «شراب» فاعلا] بالظرف ، و«منه» حال من «شراب» ، و«من» الأولى للتبعيض ، وكذا الثانية عند بعضهم ، لكنّه مجاز ؛ لأنّه لما كان سقاه بالماء جعل كأنه من الماء ؛ كقوله : [الرجز]
٣٣٠٣ ـ أسنمة الآبال في ربابه (١)
أي : في سحابة ، يعني به المطر الذي ينبت به الكلأ الذي تأكله الإبل فتسمن أسنمتها.
وقال ابن الأنباري ـ رحمهالله ـ : «هو على حذف مضاف إمّا من الأول ؛ يعني قبل الضمير ، أي : ومن جهته أو سقيه شجر ، وإمّا من الثاني ، يعني قبل شجر ، أي : شرب شجر أو حياة شجر».
وجعل أبو البقاء : الأولى للتبعيض ، والثانية للسببية ؛ أي : وبسببه إنبات شجر ، ودل عليه قوله ـ سبحانه وتعالى ـ (يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ).
والشجر ها هنا : كلّ نبات من الأرض حتّى الكلأ ، وفي الحديث : «لا تأكلوا ثمن الشّجر فإنّه سحت» يعني : الكلأ ينهى عن تحجر المباحات المحتاج إليها ، وأنشدوا شعرا : [الرجز]
٣٣٠٤ ـ نطعمها اللّحم إذا عزّ الشّجر (٢)
يريد : يسقون الخيل اللبن إذا أجدبت الأرض ، قاله الزجاج.
وقال ابن قتيبة في هذه الآية : المراد من الشجر : الكلأ.
__________________
(١) تقدم برقم : ٢٤٤٦.
(٢) ينظر : معاني الزجاج ٣ / ١٩٢ ، الخازن ٤ / ٨٢ ، الرازي ١٩ / ٢٣٨ ، اللسان والتاج (لحم) ، البحر المحيط ٥ / ٤٦٤ حاشية الشهاب ٥ / ٣١٥ ، روح المعاني ١٤ / ١٠٥ ، الدر المصون ٤ / ٣١٦.