لما شرح فعله (١) في حقّ عباده (٢) المخلصين ، وهو الإسراء برسول الله صلىاللهعليهوسلم وإيتاء التّوراة لموسى ـ عليهالسلام ، وما فعله في حقّ العصاة ، وهو تسليط البلاء عليهم ـ كان ذلك تنبيها على أنّ طاعة الله توجب كلّ خير ، ومعصيته توجب كلّ بلية ، ولا جرم أثنى على القرآن ، فقال تعالى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ).
قوله تعالى : (لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) : نعت لموصوف محذوف أي : للحالة ، أو للملّة ، أو للطريقة قال الزمخشريّ : «وأيّتما قدّرت ؛ لم تجد مع الإثبات ذوق البلاغة الذي تجده مع الحذف ؛ لما في إبهام الموصوف بحذفه من فخامة تفقد مع إيضاحه».
قال ابن الخطيب (٣) : وقولنا : هذا الشّيء أقوم من ذاك إنما يصح في شيئين اشتركا في معنى الاستقامة ، ثم كان حصول معنى الاستقامة في إحدى الصورتين ، أكثر وأكمل من حصوله في الصورة الثانية ، وهذا هنا محال ؛ فكان وصفه بأنه أقوم مجازا ، إلا أن لفظ «أفعل» قد جاء بمعنى الفاعل ، كقولنا : (اللهِ أَكْبَرُ) ، أو يحمل هذا اللفظ على الظاهر المتعارف ، ومثل هذه الكناية كثيرة الاستعمال في القرآن ؛ كقوله تعالى : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [المؤمنون : ٩٦] أي بالخصلة التي هي أحسن.
ومعنى (هِيَ أَقْوَمُ) أي : إلى الطريقة التي هي أصوب.
وقيل : إلى الكلمة (٤) التي هي أعدل وهي شهادة أن لا إله إلا الله (وَيُبَشِّرُ) ـ يعني القرآن ـ (الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ) أي : بأنّ لهم (أَجْراً كَبِيراً) وهو الجنّة.
قوله تعالى : (وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) : فيه وجهان :
أحدهما : أن يكون عطفا على «أنّ» الأولى ، أي : يبشّر المؤمنين بشيئين : بأجر كبير ، وبتعذيب أعدائهم ، ولاشكّ أنّ ما يصيب عدوّك سرور لك ، وقال الزمخشري : «ويحتمل أن يكون المراد : ونخبر بأنّ الّذين».
قال أبو حيّان : «فلا يكون إذ ذاك داخلا تحت البشارة». قال شهاب الدّين : قول الزمخشري يحتمل أمرين :
أحدهما : أن يكون قوله «ويحتمل أن يكون المراد : ويخبر بأنّ» من باب الحذف ، أي : حذف «ويخبر» وأبقى معموله ، وعلى هذا فيكون «أنّ الّذين» غير داخل في حيّز البشارة بلاشكّ ، ويحتمل أن يكون قصده : أنه يريد بالبشارة مجرّد الإخبار ، سواء كان بخير أم بشرّ ، وهل هو فيهما حقيقة أو في أحدهما ، وحينئذ يكون جمعا بين الحقيقة والمجاز ؛ أو استعمالا للمشترك في معنييه ؛ وفي المسألتين خلاف مشهور ، وعلى هذا : فلا يكون قوله (وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) غير داخل في حيّز البشارة ، إلّا أنّ الظاهر من حال
__________________
(١) في أ: فقتله.
(٢) في أ: العباد.
(٣) ينظر : الفخر الرازي ٢٠ / ١٥٩.
(٤) في أ: الحكمة.