النهار مبصرة ؛ لأنّ بسبب اختلاف أحوال نور القمر تعرف السّنون والحساب ، ويبتغى فضل الله تعالى.
وأهل التجارب بيّنوا أنّ اختلاف أحوال القمر في مقادير النور له أثر عظيم في أحوال هذا العالم ومصالحه ، مثل أحوال البحار في المدّ والجزر ، ومثل أحوال التجربات على ما يذكره الأطباء في كتبهم ، وبسبب زيادة نور القمر ونقصانه تحصل الشهور ، وبسبب معاودة الشّهور تحصل السّنون العربية المبنية على رؤية الهلال.
ويمكن أيضا إذا حملنا المحو على الكلف أن يكون برهانا قاهرا على صحّة قول المسلمين في المبدأ والمعاد ؛ لأن جرم القمر بسيط عند الفلاسفة ، فحصول الأحوال المختلفة الحاصلة بسبب المحو يدلّ على أنه ليس بسبب الطبيعة ، بل لأجل أن الفاعل المختار خصّص بعض أجزائه بالنّور الضعيف وبعض أجزائه بالنور القوي ، وذلك يدلّ على أن مدبّر العالم فاعل مختار بالذّات ، واعتذر الفلاسفة عنه بأنّه ارتكز (١) في وجه القمر أجسام قليلة الضوء مثل ارتكاز وجه الكواكب في أجرام الأفلاك ، فلمّا كانت تلك الأجرام أقلّ ضوءا من جرم القمر ، لا جرم شوهدت تلك الأجرام في وجه القمر ، كالكلف في وجه الإنسان ، وهذا ليس بشيء ؛ لأن جرم القمر لما كان متشابه الأجزاء ، فحصول تلك الأجرام الظلمانيّة في بعض أجزاء القمر دون سائر الأجزاء ليس إلّا لمخصّص حكيم ، وكذلك القول في أحوال الكواكب ؛ لأنّ الفلك جرم بسيط متشابه الأجزاء ، فلم يكن حصول جرم الكواكب في بعض جوانبه أولى من حصوله في سائر الجوانب ، وذلك يدلّ على أنّ اختصاص ذلك الكوكب بذلك الموضع المعيّن من الفلك لأجل تخصيص العالم الفاعل المختار.
روي أن ابن الكواء (٢) سأل عليّا ـ رضي الله عنه ـ عن السّواد الذي في القمر ، فقال : هو أثر المحو (٣).
قوله : «مبصرة» فيه أوجه :
أحدها : أنه من الإسناد المجازيّ ؛ لأنّ الإبصار فيها لأهلها ؛ كقوله : (وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً) [الإسراء : ٥٩] لمّا كانت سببا للإبصار ؛ لأن الإضاءة سبب لحصول الإبصار ، فأطلق الإبصار على الإضاءة إطلاقا لاسم المسبّب على السّبب.
وقيل : «مبصرة» : مضيئة ، وقال أبو عبيدة : قد أبصر النهار ، إذا صار الناس يبصرون فيه ، فهو من باب أفعل ، والمراد غير من أسند الفعل إليه ؛ كقولهم : «أضعف الرّجل» أي : ضعفت ماشيته ، و«أجبن الرّجل» إذا كان أهله جبناء ، فالمعنى أنّ أهلها بصراء.
__________________
(١) في ب : ارتكبت.
(٢) ينظر : معالم التنزيل ٣ / ١٠٧.
(٣) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢٠ / ١٤٨).