ومن المحال أن يقع بين آيات القرآن تناقض ؛ فثبت أنّ هذه الآيات محكمة ، والآيات التي نحن في تفسيرها مجملة ؛ فيجب حمل هذه الآية على تلك الآيات.
واعلم أنّ أحسن الناس كلاما في تأويل هذه الآية على وجه يوافق قول المعتزلة : «القفّال» ـ رحمهالله تعالى ـ فإنه ذكر وجهين :
الأول : أنه ـ تعالى ـ أخبر أنّه لا يعذّب أحدا بما يعلمه منه ، ما لم يعمل به أي : لا يجعل علمه حجّة على من علم أنّه إذا أمره عصاه ، بل يأمره ، فإذا ظهر عصيانه للنّاس ، فحينئذ يعاقبه.
وقوله ـ تعالى ـ : (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها).
معناه : وإذا أردنا إمضاء ما سبق من القضاء بإهلاك قوم بظهور معاصيهم ، فحينئذ (أَمَرْنا مُتْرَفِيها). أي : أمرنا المنعّمين فيها المتعزّزين الظّانين أن أموالهم وأولادهم وأنصارهم تردّ عنهم بأسنا بالإيمان والعمل بشرائع ديني ، على ما يبلّغهم عنّي رسولي ، ففسقوا ، فحينئذ يحقّ عليهم القضاء السابق بإهلاكهم ، لظهور معاصيهم ، فحينئذ أدمّرها.
والحاصل : أن المعنى : وإذا أردنا أن نهلك قرية بسبب علمنا بأنهم لا يقدمون إلا على المعصية لم نكتف [في تحقيق](١) ذلك الإهلاك بمجرّد ذلك العلم ، بل أمرنا مترفيها ، ففسقوا ، فإذا ظهر منهم ذلك الفسق ، فحينئذ نوقع العذاب الموعود به.
الوجه الثاني : أنّ التأويل : وإن أردنا أن نهلك قرية بسبب ظهور المعاصي من أهلها ، لم نعاجلهم بالعذاب في أوّل ظهور المعاصي بينهم ، بل أمرنا مترفيها بالرجوع عن تلك المعاصي.
وإنّما خصّ المترفين بذلك الأمر ؛ لأنّ المترف هو المنعّم ، ومن كثرت نعمة الله عليه ، كان قيامه بالشّكر أوجب ، فإذا أمرهم بالتوبة والرجوع عن المعاصي مرة بعد أخرى ، مع أنه لا يقطع عنهم تلك النّعم ، بل يزيدها حالا بعد حال ، فحينئذ يظهر عنادهم وتمرّدهم وبعدهم عن الرجوع عن الباطل إلى الحقّ ، فحينئذ يصبّ الله البلاء عليهم صبا.
ثم قال القفال ـ رحمهالله ـ : وهذان التأويلان راجعان إلى أنّ الله ـ تعالى ـ أخبر عن عباده أنّه لا يعاجل بالعقوبة أمة ظالمة ؛ حتى يعذر إليهم غاية الإعذار ، الذي يقع منه اليأس من إيمانهم ، كما قال ـ تعالى ـ في قوم نوح ـ عليهالسلام ـ : (وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) [نوح : ٢٧] ، وقال عزوجل : (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) [هود : ٣٦] وقال تعالى في غيرهم: (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ) [الأعراف : ٧] فأخبر الله تعالى عنهم أولا أنّه لا يظهر العذاب إلّا بعد بعثة الرسل ، ثم أخبر ثانيا في هذه الآية : أنه ـ تعالى ـ إذا بعث الرسل أيضا ، فكذّبوا ، لم يعاجلهم بالعذاب ، بل يتابع (٢) عليهم النصائح والمواعظ ، فإن بقوا مصرّين ، فهناك ينزل عليهم عذاب الاستئصال.
__________________
(١) في ب : بتحقيق.
(٢) في ب : يبالغ.