واعلم أنّ الأصل في القتل هو التحريم ، والحلّ إنّما ثبت بسبب عارض ؛ فذلك نهى عن القتل بناء على حكم الأصل ، ثم استثنى منه الحالة التي يباح فيها القتل ، وهو عند حصول الأسباب العرضيّة ، فقال : (إِلَّا بِالْحَقِ) ويدل على أنّ الأصل في القتل التحريم وجوه :
أحدها : أن القتل ضرر ، والأصل في المضارّ الحرمة ، قال ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ : «لا ضرر ، ولا ضرار» (١).
وثانيها : قوله صلىاللهعليهوسلم : «الآدميّ بنيان الربّ ، ملعون من هدم بنيان الربّ» (٢).
وثالثها : أن الآدميّ خلق للعبادة ، لقوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦] والعبادة لا تتمّ إلّا بعدم القتل.
ورابعها : أنّ القتل إفساد ، فحرم ؛ لقوله تعالى : (وَلا تُفْسِدُوا) [الأعراف : ٥٦].
وخامسها : إذا تعارض دليل تحريم القتل ، ودليل إباحته ، فالإجماع على أنّ جانب الحرمة راجح ، ولولا أنّ مقتضى الأصل هو التحريم ، وإلّا لكان ذلك ترجيحا لا لمرجح ، وهو محال.
وإذا علم أنّ الأصل في القتل هو التحريم ، فقوله : (وَلا تَقْتُلُوا) نهي وتحريم. وقوله : (حَرَّمَ اللهُ) إعادة لذكر التحريم على سبيل التأكيد ، ثم استثنى عنه الأسباب العرضيّة ، فقال : إلّا بالحقّ ، وهاهنا طريقان :
الطريق الأول : أن قوله (إِلَّا بِالْحَقِّ) مجمل ليس فيه بيان أن ذلك الحقّ ما هو ، ثم قال تعالى : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) أي : في حقّ استيفاء القصاص ؛ فوجب أن يكون المراد من الحقّ هذه الصورة فقط ، فتكون الآية نصّا صريحا في تحريم القتل ، إلا بهذا السبب الواحد.
الطريق الثاني : أن نقول : دلّت السنة على أنّ ذلك الحقّ هو أحد الأمور الثلاثة المتقدّمة في الخبر.
واعلم أن الخبر من باب الآحاد ، فإن قلنا : إنّ قوله تعالى : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) بيان لذلك الحقّ ، كانت الآية صريحة في أنه لا يحلّ القتل إلّا بهذا السبب الواحد ، وحينئذ : يصير الخبر مخصّصا للآية ، ويصير فرعا لقولنا (٣) بصحّة تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد ، وإن قلنا بأن قوله تعالى : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) ليس بيانا لذلك الحقّ ، فحينئذ يصير الخبر مفسّرا للحقّ المذكور في الآية ، وعلى هذا لا يصير فرعا على جواز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد ، وهو تنبيه حسن.
__________________
(١) تقدم.
(٢) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢٠ / ١٦٠).
(٣) في أ: لقوله.