وأيضا : فالخبر المذكور يوجب حصر أسباب الحلّ في تلك الثلاثة ، ففيما عداها يجب البقاء على أصل الحرمة ، ثم قالوا : وبهذا النصّ قد تأكّد بالدلائل الكثيرة الموجبة لحرمة الدّم على الإطلاق ، فترك العمل بهذه الدلائل لا يكون إلا لمعارض ، وذلك المعارض : إمّا أن يكون نصّا متواترا أو نصّا من باب الآحاد ، أو قياسا ، والنص المتواتر مفقود ، وإلّا لما بقي الخلاف.
وأما النصّ من باب الآحاد ، فهو مرجوح بالنسبة إلى هذه النصوص الكثيرة ؛ لأنّ الظنّ المستفاد من النصوص الكثيرة أعظم من الظنّ المستفاد من خبر واحد.
وأما القياس : فلا يعارض النصّ ، فثبت بمقتضى هذا الأصل القويّ : أنّ الأصل في الدماء الحرمة إلّا في الصور المعدودة.
قوله سبحانه وتعالى : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) فيه بحثان :
البحث الأول : هذه الآية تدلّ على أنّه أثبت لوليّ الدم سلطانا.
فأمّا بيان هذه السلطنة فيماذا ، فليس في قوله : (فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) دلالة عنه ، ثم هاهنا طريقان :
الأول : أنّ قوله تعالى بعده : (فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) يدل على أن تلك السلطنة هي في استيفاء القتل ، وهذا ضعيف ؛ لاحتمال أن يكون المراد : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) فلا ينبغي أن يسرف ذلك القاتل الظالم في ذلك القتل ؛ لأنّ ذلك المقتول منصور ؛ لثبوت السّلطنة لوليه.
والطريق الثاني : أن تلك السلطنة مجملة ، ثم فسّرت بالآية والخبر.
أما الآية : فقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) إلى قوله : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) [البقرة : ١٧٨].
وقد بينّا على أنّها تدل على أن الواجب تخيير الوليّ بين القصاص والدية.
وأمّا الخبر : فقوله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ يوم الفتح «من قتل له قتيل ، فهو بخير النّظرين : إمّا أن يقتل ، وإمّا أن يفدى» (١).
فعلى هذا : فمعنى قوله : (فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) أنه لما حصلت له سلطنة استيفاء القصاص ، وسلطنة استيفاء الدّية ، إن شاء ، قال بعده (فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) أي أنّ الأولى ألّا يقتصّ ، ويكتفي بأخذ الدية أو يعفو ، كقوله تعالى : (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [البقرة: ٢٣٧].
__________________
(١) أخرجه أبو داود ٤ / ١٧٢ ، كتاب الديات : باب ولي العمد يرضى بالدية (٤ / ٤٥٠) ، والترمذي ٤ / ١٤ ، كتاب الديات : باب ما جاء في حكم ولي القتيل (١٤٠٦) ، والحديث في الصحيحين أخرجه البخاري ١ / ٢٣٨ ، كتاب العلم : باب ليبلغ العلم (١٠٤) ، وطرفاه (١٨٣٢) ـ (٤٢٩٥) كتاب الحج : باب تحريم مكة (٤٤٨ ـ ٣٥٥) من حديث أبي هريرة.