وذلك تصريح بأنّ الظنّ معتبر في هذه الأنواع ، فبطل القول بأنه لا يجوز العمل بالظنّ.
الثاني : أنّ الظنّ قد يسمّى بالعلم ؛ قال تعالى : (إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ) [الممتحنة : ١٠].
ومن المعلوم أنّه إنما يمكن العلم بإيمانهنّ ؛ بناء على إقرارهن ، وهذا لا يفيد إلّا الظنّ ، وقد سمّى الله تعالى الظنّ هاهنا علما.
الثالث : أنّ الدليل القاطع ، لما دلّ على وجوب العمل بالقياس ، كان ذلك الدليل دليلا على أنّه متى حصل ظنّ أنّ حكم الله في هذه الصّورة يساوي حكمه في محلّ النصّ ، فأنتم مكلّفون بالعمل على وفق ذلك الظنّ ، فها هنا الظن وقع في طريق الحكم ، فأمّا الحكم ، فهو معلوم متيقّن.
أجاب نفاة القياس عن الأول ؛ فقالوا :
قوله عزّ وعلا : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) دخله التخصيص في الصّور العشرة المذكورة ، فيبقى العموم حجة فيما وراءها ، ثم نقول : الفرق بين هذه الصور وبين محلّ النّزاع أنّ هذه الصور العشر مشتركة في أنّ تلك الأحكام مختصّة بأشخاص معينين في أوقات معيّنة ؛ فإنّ الواقعة التي يرجع فيها الإنسان المعيّن إلى الفتى المعيّن واقعة متعلقة بذلك الشخص المعيّن ، وكذا القول في الشّهادة وفي طلب القبلة ، وفي سائر الصور ؛ والتنصيص على وقائع الأشخاص المعنيين في الأوقات المعينة يجري مجرى التنصيص على ما لا نهاية له ، فلهذه الضرورة ؛ اكتفينا بالظنّ ، أما الأحكام المثبتة ، فهي أحكام كلية معتبرة في وقائع كلية ، وهي مضبوطة ، والتنصيص عليها ممكن ، ولذلك فإنّ الفقهاء الذين استخرجوا تلك الأحكام بطريق القياس ضبطوها ، وذكروها في كتبهم.
إذا عرف هذا ، فنقول : التنصيص على الأحكام في الصّور العشر التي ذكرتموها غير ممكن ، فلا جرم : اكتفى الشّارع فيها بالظنّ ، أما المسائل المثبتة بالطرق القياسيّة ، فالتنصيص عليها ممكن ، فلا يجوز الاكتفاء فيها بالظنّ ، فظهر الفرق.
__________________
حديث أم سلمة فنقله كذلك ، ثم قلده من بعده ، ولأجل هذا يوجد في كتب كثير من أصحاب الشافعي دون غيرهم ، حتى أورده الرافعي في القضاء ، ثم رأيت في الأم بعد ذلك ، قال الشافعي روي أنه صلىاللهعليهوسلم ، قال : تولى الله منكم السرائر ودرأ عنكم بالبينات ، وكذا قال ابن عبد البر في التمهيد : أجمعوا أن أحكام الدنيا على الظاهر وأن أمر السرائر إلى الله. وأغرب إسماعيل بن علي بن إبراهيم بن أبي القاسم الجنزوي في كتابه إدارة الأحكام ، فقال فيما نقل عنه مغلطاي ـ مما وقف عليه ـ إن هذا الحديث ورد في قصة الكندي والحضرمي اللذين اختصما في الأرض ؛ فقال المقضي عليه قضيت عليّ والحق لي ، فقال صلىاللهعليهوسلم : إنما أقضي بالظاهر والله يتولى السرائر ، قال شيخنا : ولم أقف على هذا الكتاب ولا أدري أساق له إسماعيل المذكور إسنادا أم لا ، قلبت : وسيأتي في : المسلمون عدول. من قول عمر : إن الله تعالى تولى عنكم السرائر ، ودفع عنكم بالبينات.