التسبيح ، وإن الطير والوحش تسبّح ، إذا صاحت ، فإذا سكنت ، تركت التّسبيح (١).
وقال إبراهيم النخعيّ : وإن من شيء جماد وحيّ إلا يسبّح بحمده ، حتّى صرير الباب ، ونقيض السقف (٢).
وقال مجاهد : كل الأشياء تسبّح لله ، حيّا كان أو ميتا ، أو جمادا ، وتسبيحها : سبحان الله وبحمده (٣).
قال أهل المعاني : تسبيح الحيّ المكلّف بالقول ، كقول اللسان : سبحان الله ، وتسبيح غير المكلّف كالبهائم ، ومن لا يكون حيّا ، كالجمادات ما دلّت بلطيف تركيبها ، وعجيب هيئتها على خالقها ؛ لأنّ التسبيح باللسان لا يحصل إلّا مع الفهم ، والعلم ، والإدراك ، والنّطق ، وكل ذلك في الجمادات محال.
قالوا : فلو جوّزنا في الجماد أن يكون عالما متكلّما ، لعجزنا عن الاستدلال بكونه تعالى قادرا عالما على كونه حيّا ، وحينئذ : يفسد علينا باب العلم بكونه حيّا ، وذلك كفر ؛ فإنّه إذا جاز للجمادات أن تكون عالمة بذات الله وصفاته ، وتسبيحه ، مع أنّها ليست بأحياء ؛ فحينئذ : لا يلزم من كون الشيء عالما قادرا متكلما أن يكون حيّا ، فلم يلزم من كونه تعالى عالما قادرا كونه حيّا ، وذلك جهل وكفر ، ومن المعلوم بالضّرورة أنّ من ليس بحيّ لم يكن عالما قادرا متكلّما.
واحتج القائلون بأنّ الجمادات وأنواع النبات والحيوان كلّها تسبّح لله تعالى بهذه الآية ، ولا يمكن تفسير هذا التسبيح بكونها دلائل على كمال قدرة الله تعالى وحكمته ؛ لأنّه تعالى قال : (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) وهذا يقتضي أن تسبيح هذه الأشياء غير معلوم لنا ، ودلالتها على وجود قدرة الله تعالى وحكمته معلومة لنا ، فوجب أن يكون التسبيح المذكور في هذه الآية مغايرا لكونها دالة على وجود قدرة الله تعالى وحكمته سبحانه.
فأجاب أهل المعاني بوجوه :
أولها : أنّك إذا أخذت تفاحة واحدة ، فتلك التفاحة مركبة من أشياء كثيرة ، لا تتجزّأ ، وكلّ واحد من تلك الأجزاء دليل تامّ مستقلّ على وجود الإله ، ولكلّ واحد من تلك الأجزاء صفات مخصوصة من الطّبع ، والطّعم ، واللّون ، والرائحة ، واختصاص ذلك الجوهر الفرد بتلك الصفة المعينة من الجائزات ، ولا يحصل ذلك إلا بتخصيص مخصّص قادر حكيم.
إذا عرف هذا ظهر أنّ كلّ واحد من أجزاء تلك التفاحة دليل تامّ على وجود الإله ، وكل صفة من تلك الصفات القائمة بذلك الجزء الواحد أيضا دليل تامّ على وجود الإله ،
__________________
(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١١٧.
(٢) ينظر : المصدر السابق.
(٣) ينظر : المصدر السابق.