بأنّ «أعمى» في طه من عمى البصر ، وفي الإسراء من عمى البصيرة ؛ ولذلك فسّروه هنا بالجهل فأميل هنا ، ولم يمل هناك ؛ للفرق بين المعنيين ، والسؤال باق ؛ إذ لقائل أن يقول : فلم خصّصت هذه بالإمالة ، ولو عكس الأمر ، لكان الفارق قائما.
ونقل ابن الخطيب (١) ـ رحمهالله ـ عن أبي عليّ الفارسيّ ، قال : الوجه في تصحيح قراءة أبي عمرو أنّ المراد بالأعمى في الكلمة الأولى كونه في نفسه أعمى ، وبهذا التفسير تكون هذه الكلمة تامّة ، فتقبل الإمالة ، وأما في الكلمة الثانية ، فالمراد من الأعمى أفعل التفضيل ، وبهذا التقدير : لا تكون تامة ؛ فلم تقبل الإمالة.
فصل
قال عكرمة : جاء نفر من أهل اليمن إلى ابن عبّاس ، فسأله رجل عن هذه الآية ، فقال : اقرأ ما قبلها ، فقرأ (رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ) إلى قوله (تَفْضِيلاً).
فقال ابن عباس : من كان أعمى في هذه النّعم التي قد رأى وعاين ، فهو في الآخرة التي لم يعاين ولم ير أعمى وأضلّ سبيلا (٢).
وعلى هذا ؛ فالإشارة بقوله : «هذه» إلى النّعم المذكورة في الآيات المتقدمة.
روى الضحاك عن ابن عباس : من كان في الدنيا أعمى عما يرى من قدرة الله تعالى ، وعن رؤية الحقّ ، فهو في الآخرة أعمى أشدّ عمى (وَأَضَلُّ سَبِيلاً) ، أي : أخطأ طريقا (٣) وعلى هذا ؛ فالإشارة ب «هذه» إلى الدنيا.
وعلى هذين القولين : فالمراد من كان أعمى عن معرفة الدلائل ، والنّعم ، فبأن يكون في الآخرة أعمى القلب عن معرفة أحوال الآخرة أولى.
وقال الحسن : من كان في الدنيا ضالّا كافرا ، فهو في الآخرة أعمى ، وأضلّ سبيلا ؛ لأنّه في الدنيا ؛ تقبل توبته ، وفي الآخرة ، لا تقبل توبته (٤) ، وحمل بعضهم العمى الثاني على عمى العين والبصر ، ويكون التقدير : فمن كان في هذه الدنيا أعمى القلب حشر يوم القيامة أعمى العين والبصر ، كما قال تعالى : (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) [طه : ١٢٤ ـ ١٢٦].
وقال جلّ ذكره : (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا) [الإسراء : ٩٧].
وهذا العمى زيادة في عقوبتهم.
__________________
(١) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ١٦.
(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٥١) وعزاه إلى الفريابي وابن أبي حاتم عن عكرمة.
(٣) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢١ / ١٦).
(٤) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١٢٦) والرازي في «تفسيره» (٢١ / ١٦).