يقال : فتن الصّائغ الذّهب ، إذا أدخله النّار ، وأذابه ؛ ليميّز جيّده من رديّه ، ثم استعمل في كلّ من أزال الشيء عن حدّه وجهته ، فقالوا : فتنة ، فقوله تعالى : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ). أي : يزيلونك ، ويصرفونك عن الذي أوحينا إليك ، وهو القرآن ، أي : عن حكمه ؛ وذلك لأنّ في إعطائهم ما سألوا مخالفة لحكم القرآن.
وقوله : (لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ) أي غير ما أوحينا إليك ، وقوله : (وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً) أي لو فعلت ذلك ما أرادوا لا تخذوك خليلا ، وأظهروا للناس أنك موافق لهم على كفرهم وراض بشركهم ، ثم قال : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ) يعني على الحق ، بعصمتنا إياك (لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ) أي تميل إليهم شيئا قليلا.
قرأ العامة بفتح كاد تركن مضارع ركن بالكسر ، وقتادة ، وابن مصرف ، وابن أبي إسحاق «تركن» بالضم مضارع «ركن» بالفتح ، وهذا من التداخل ، وقد تقدم تحقيقه في أواخر «هود» (١) و«شيئا» منصوب على المصدر ، وصفته محذوفة ، أي شيئا قليلا من الركون ، أو ركونا قليلا.
قال ابن عباس : يريد حيث سكوتك عن جوابهم.
قال قتادة : لما نزلت هذه الآية قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين».
ثم توعد في ذلك أشد التوعد ، فقال : (إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ) أي ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات ، يريد عذاب الدنيا وعذاب الآخرة.
قال الزمخشري : فإن قلت : كيف حقيقة هذا الكلام؟ قلت : أصله لأذقناك عذاب الحياة ، وعذاب الممات ، لأن العذاب عذابان عذاب في الممات ، وهو عذاب القبر وعذاب في الحياة الآخرة ، وهو عذاب النار ، والضعف يوصف به نحو قوله تعالى : (فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ) [الأعراف : ٣٨] يعني عذابا مضاعفا ، فكان أصل الكلام : لأذقناك عذابا ضعفا عذابا ضعفا في الحياة ، وعذابا ضعفا في الممات ثم حذف الموصوف ، فأثبت الصفة مقامه وهو الضعف ، ثم أضيفت الصفة إضافة الموصوف ، فقيل : ضعف الحياة ، وضعف الممات ، لما تقدم في القرآن من وصف العذاب بالضعف في قوله : (مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ) [ص : ٦١] وحاصل الكلام أنك لو مكنت خواطر الشيطان من قلبك ، وعقدت على الركون إليه لاستحققت تضعيف العذاب عليك في الدنيا وفي الآخرة ، وصار عذابك مثلي عذاب المشرك في الدنيا ومثلي عذابه في الآخرة ، والسبب في تضعيف هذا العذاب أن أقسام نعم الله في حق الأنبياء عليهمالسلام أكثر فكانت ذنوبهم أعظم ، وكانت العقوبة المستحقة عليها أكثر ، ونظيره قوله تعالى : (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ
__________________
(١) آية ١١٣.