وحمل اللفظ على هذا المعنى أولى ؛ لوجوه :
الأول : لو كان كذلك ، لما استحقّوا الذمّ.
الثاني : أنه قال بعد هذه الآية (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) ولو كان تعالى خلق الغفلة في قلبه ، لما صحّ ذلك.
الثالث : أنه لو خلق الغفلة في قلبه ، لوجب أن يقال : ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا ، فاتبع هواه ؛ لأن على هذا التقدير : يكون ذلك من أفعال المطاوعة ، وهي إنما تعطف بالفاء ، لا بالواو ، يقال : كسرته ، فانكسر ، ودفعته فاندفع ، ولا يقال : وانكسر ، واندفع.
الرابع : قوله : (وَاتَّبَعَ هَواهُ) فلو أغفل قلبهم في الحقيقة ، لم يجز أن يضاف ذلك إلى (وَاتَّبَعَ هَواهُ).
والجواب عن الأول من وجهين :
الأول : أن الاشتراك خلاف الأصل ، فوجب أن يكون حقيقة في أحدهما مجازا في الآخر ، وجعله حقيقة في التكوين ، مجازا في الوجدان أولى من العكس ؛ لوجوه :
أحدها : مجيء بناء الأفعال بمعنى التّكوين أكثر من مجيئه بمعنى الوجدان ، والكثرة دليل على الرّجحان.
وثانيها : أن مبادرة الفهم من هذا البناء إلى التّكوين أكثر من مبادرته إلى الوجدان ، ومبادرة الفهم دليل الرجحان.
وثالثها : إنّ جعلنا إيّاه حقيقة في التكوين أمكن من جعله مجازا عن الوجدان ؛ لأنّ العلم بالشيء تابع لحصول المعلوم ، فجعل اللفظ حقيقة في المتبوع مجازا في التّبع موافق للمعقول ، أمّا لو جعلناه حقيقة في الوجدان ، مجازا في الإيجاد ، لزم جعله حقيقة في التّبع مجازا في الأصل ، وهو عكس المعقول.
والوجه الثاني من الجواب : سلّمنا كون اللفظ مشتركا بالنسبة إلى الإيجاد وإلى الوجدان ، إلّا أنّا نقول : يجب حمل قوله : «أغفلنا» على إيجاد الغفلة ؛ لأنّ الدليل دلّ على أنّه يمتنع كون العبد موجدا للغفلة في نفسه ؛ لأنّه إذا حاول إيجاد الغفلة ، فإمّا أن يحاول إيجاد مطلق الغفلة ، أو يحاول إيجاد الغفلة عن شيء معيّن ، والأول باطل ، وإلّا لم يكن حصول الغفلة عن هذا الشيء أولى بأن يحصل له الغفلة عن شيء آخر ؛ لأنّ الطبيعة المشتركة فيها بين الأنواع الكثيرة تكون نسبتها إلى كلّ تلك [الأنواع](١) على السويّة.
والثاني أيضا باطل ؛ لأنّ الغفلة عبارة عن غفلة لا تمتاز عن سائر الأقسام ، إلّا
__________________
(١) في أ: الأسباب.