الرابع : أن قوله (كُنْ فَيَكُونُ) كلمة مقدمة على حدوث الكون بزمان واحد ، والمتقدم على المحدث بزمان واحد ؛ يجب أن يكون محدثا.
الخامس : أنه معارض بقوله تعالى : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) [الأحزاب : ٣٧] و (وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً) [الأحزاب : ٣٨] و (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) [الزمر : ٢٣] و (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ) [الطور : ٢٤] و (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً) [الأحقاف : ١٢] فإن قيل : فهب أنّ هذه الآية لا تدل على قدم الكلام لكنكم ذكرتم أنّها تدل على حدوث الكلام ، فما الجواب عنه؟.
قلنا : نصرف هذه الدلائل إلى الكلام المسموع الذي هو مركب من الحروف ، والأصوات ، ونحن نقول بكونه محدثا.
قوله : (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) الآية.
لما حكى عن الكفّار أنّهم أقسموا بالله جهد أيمانهم ، على إنكار البعث ، دلّ ذلك على تماديهم في الغيّ والجهل ، ومن هذا حاله ، لا يبعد إقدامه على إيذاء المسلمين ؛ بالضّرب ، وغيره من العقوبات ؛ وحينئذ يلزم على المؤمنين أن يهاجروا عن ديارهم ، ومساكنهم فذكر ـ تعالى ـ في هذه الآية حكم تلك الهجرة ، وبيّن ما للمهاجرين من الحسنة في الدنيا والآخرة ؛ من حيث هاجر ، وصبر ، وتوكّل على الله ـ عزوجل ـ وذلك ترغيب لغيرهم في طاعة الله ـ عزوجل ـ.
قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : نزلت هذه الآية في صهيب ، وبلال ، وعمار ، وخبّاب ، وعابس ، وجبير ، وأبي جندل بن سهيل ، أخذهم المشركون بمكة فجعلوا يعذبونهم ؛ ليردوهم عن الإسلام ، فأما صهيب فقال لهم : أنا رجل كبير إن كنت لكم لم أنفعكم ، وإن كنت عليكم لم أضركم ؛ فافتدى منهم بماله ، فلما رآه أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ قال : ربح البيع يا صهيب ، وقال عمر رضي الله عنه : «نعم الرّجل صهيب ، لو لم يخف الله لم يعصه» ، يريد لو لم يخلق الله النار لأطاعه (١).
وقال قتادة ـ رضي الله عنه ـ : هم أصحاب النبيّ صلىاللهعليهوسلم ظلمهم أهل مكة ، وأخرجوهم من ديارهم ؛ حتّى لحق طائفة منهم بالحبشة ، ثم بوّأهم الله المدينة بعد ذلك ؛ فجعلها لهم دار هجرة ، وجعلهم أنصارا للمؤمنين ، وبسبب هجرتهم ظهرت قوة الإسلام ، كما أن نصرة الأنصار قوّت شوكتهم (٢) ، ودل عليه قوله تعالى : (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ) على أنّ الهجرة إذا لم تكن لله ، لم يكن لها موقع ، وكانت بمنزلة الانتقال من بلد إلى بلد.
__________________
(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٠ / ٢٨).
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٥٨٥) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» ٤ / ٢٢١) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.