غمّا ، وحزنا ، وإنما جعل اسوداد الوجه كناية عن الغمّ ؛ لأنّ الإنسان إذا قوي فرحه انشرح صدره ، وانبسط روح قلبه من داخل البدن ، ووصل إلى الأطراف ، ولا سيّما إلى الوجه لما بين القلب ، والدّماغ من التّعلق الشّديد ، وإذا وصل الرّوح إلى ظاهر الوجه أشرق الوجه ، وتلألأ ، واستنار ، وإذا قوي غمّ الإنسان احتقن الروح في داخل القلب ، ولم يبق منه أثر قويّ في ظاهر الوجه ، فلا جرم يصفرّ الوجه ، ويسودّ ، ويظهر فيه أثر الأرضية ، والكآبة ؛ فثبت أنّ من لوازم الفرح استنارة الوجه ، وإشراقه ، ومن لوازم الغمّ كمودة الوجه ، وغبرته ، وسواده ، فلهذا قال : (ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ) أي ممتلىء غمّا «يتوارى» به من القوم يتنحى عنهم ويتغيّب من سوء ما بشّر.
قال المفسّرون : كان الرجل في الجاهليّة إذا ظهر آثار الطّلق بامرأته توارى واختفى عن القوم إلى أن يعلم ما يولد له ، فإن كان ذكرا ؛ ابتهج به وإن كان أنثى حزن ، ولم يظهر أياما يدبر فيها رأيه ماذا يصنع بها؟ وهو قوله : (أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ) ، أي : أيحتبسه؟ والإمساك هنا : الحبس ، كقوله : (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) [الأحزاب : ٣٧] والهون : الهوان.
قال النضر بن شميل : يقال : إنه أهون عليه هونا ، وهوانا ، وأهنته هونا وهوانا ، وقد تقدّم الكلام فيه في سورة الأنعام عند قوله تعالى : (عَذابَ الْهُونِ) [الأنعام : ٩٣].
(أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ) والدّس : إخفاء الشيء في الشيء ، كانت العرب يدفنون البنات أحياء خوفا من الفقر عليهن ، وطمع غير الأكفاء فيهنّ.
قال قيس بن عاصم : يا رسول الله : إني واريت ثماني بنات في الجاهليّة ، فقال ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ : «أعتق عن كلّ واحدة منهنّ رقبة» ، فقال : يا نبيّ الله إنّي ذو إبل ، فقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ «أهد عن كلّ واحدة منهنّ هديا» (١).
وروي أنّ رجلا قال : يا رسول الله : والذي بعثك بالحق نبيّا ما أجد حلاوة الإسلام منذ أسلمت قد كان لي بنت في الجاهليّة ، وأمرت امرأتي أن تزيّنها وتطيبها ، فأخرجتها إليّ فلمّا انتهيت بها إلى واد بعيد القعر ألقيتها فيه ، فقالت : يا أبت قتلتني ، فكلّما تذكّرت قولها لم ينفعني شيء ، فقال صلىاللهعليهوسلم «ما كان في الجاهليّة فقد هدمه الإسلام ، وما كان في الإسلام يهدمه الاستغفار» (٢).
واعلم أنّهم كانوا مختلفين في قتل البنات ، فمنهم من يذبحها ، ومنهم من يحفر الحفيرة ، ويدفنها إلى أن تموت ، ومنهم من يرميها من شاهق جبل ، ومنهم من يغرقها ، وكانوا يفعلون ذلك تارة للغيرة ، وتارة للحميّة ، وتارة خوفا من الفقر ، والفاقة ، ولزوم النّفقة.
__________________
(١) أخرجه البيهقي (٨ / ١١٦) والطبراني في «الكبير» (١٨ / ٣٣٨) والبزار (٢٢٨٠ ـ كشف).
وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٧ / ١٣٧) وقال : رواه البزار والطبراني ورجال البزار رجال الصحيح غير حسين بن مهدي الأيلي وهو ثقة.
(٢) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢٠ / ٤٥ ـ ٤٦).