فلمّا رأى كسرى ذلك عرف شرفه وقد كان ابن ذي يزن قال قصيدة بالحميرية في مدح كسرى ، فلمّا ترجمت له اعجب بها ، فأقبل عليه ولطف به وسأله : ما الأمر الّذي نزع بك؟ قال : أيّها الملك! إنّ السودان قد غلبونا على بلادنا وركبوا منّا امورا شنيعة اجلّ الملك عن ذكرها ، فلو أنّ الملك تناولنا بنصره من غير أن نستنصره لكان بذلك حقيقا لفضله وكرمه وتقدّمه على سائر الملوك ، فكيف وقد نزعنا إليه مؤمّلين له ، راجين أن يقصم الله عدوّنا وينصرنا عليهم وينتقم لنا به منهم! فان رأى الملك أن يصدّق ظنّنا ويحقّق رجاءنا ، ويوجه معي جيشا ينفون هذا العدو عن بلادنا فيزدادها الى ملكه فعل ، فانّها من أخصب البلدان وأكثرها خيرا ، وليست كما يلي الملك من بلاد العرب.
فقال انوشيروان : قد علمت أنّ بلادكم كما وصفت ، فأيّ السّودان غلبوا عليها : الحبشة أم السند؟ قال ابن ذي يزن : بل الحبشة.
قال أنوشيروان : انّي لاحبّ ان اصدّق ظنّك وان تنصرف بحاجتك ، ولكنّ مسلك الجيش الى بلادك مسلك صعب أكره أن اغرر جندي به ، وسأنظر فيما سألت.
فلم يزل مقيما عنده حتى هلك.
ونشأ معد يكرب بن ذي يزن مع امّه ريحانة في حجر ابرهة ، وأخبرته امّه ان أباه هو سيف بن ذي يزن ، واقتصّت عليه خبره ، فلبث حتّى مات الأشرم ومات ابنه يكسوم ، وتملّك اخوه مسروق ، فخرج ابن ذي يزن الى ملك الروم ، ولم يذهب الى كسرى لابطائه عن أبيه ، ولكنّه وجد قيصر أو هرقل لموافقته للحبشة في دينهم يحامي عنهم ، فانكفأ راجعا الى كسرى ، فاعترضه يوما ـ وقد ركب ـ فصاح به : أيّها الملك انّ لي عندك ميراثا! فدعا به كسرى وقال : من أنت؟ وما ميراثك؟ قال : أنا ابن الشيخ اليماني ذي يزن الّذي وعدته أن تنصره فمات بحضرتك ، فتلك العدة حق لي وميراث يجب عليك الخروج لي منه. فقال له : أقم حتّى أنظر في أمرك.