أكرمه به : أنّه ما ودّعه وما قلاه ، ويقول : ما صرمك فتركك وما أبغضك منذ أحبّك ، وما عندي من مرجعك إليّ خير لك ممّا عجّلت من الكرامة في الدنيا (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ) من الفلج (الفوز والغلبة) في الدنيا والثواب في الآخرة (فَتَرْضى). ثمّ يعرّفه الله ما ابتدأه به من كرامته في عاجل أمره ومنّه عليه في يتمه وعيلته وضلالته واستنقاذه من ذلك كلّه برحمته ... (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) بما جاءك من الله من نعمته وكرامته من النبوة فاذكرها وادع إليها. فجعل رسول الله ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ يذكر ما أنعم الله به عليه وعلى العباد به من النبوّة سرّا الى من يطمئن إليه من أهله (١).
ثمّ يقول : فلمّا دخل الناس في الإسلام أرسالا من الرجال والنساء حتّى فشا ذكر الإسلام بمكّة وتحدّث به ... قال الله تعالى له : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) فأمر رسوله أن يصدع بما جاءه منه وأن يبادي الناس بأمره وأن يدعو إليه. وكان ـ فيما بلغني ـ بين ما أخفى رسول الله أمره واستتر به من مبعثه الى أن أمره الله تعالى بإظهار دينه ثلاث سنين ... كان فيها أصحابه اذا أرادوا الصلاة ذهبوا الى شعاب مكّة فاستخفوا بصلاتهم من قومهم. فبينا رسول الله في نفر من أصحابه في شعب من شعاب مكّة يصلّون إذ ظهر عليهم نفر من المشركين ، فعابوا عليهم ما يصنعون (٢) ؛ وكأنّ هذه الحادثة كانت هي المناسبة لإعلان الدعوة. أمّا قبل ذلك فإنّما كان يذكر النبوة لمن كان يطمئن إليه من أهله سرّا. إذن فكيف اطلعت عليه أمّ جميل فاحتطبت عليه الى المشركين فأشاعوا عليه أنّ الوحي منقطع عنه؟! اللهم الّا أن نخلص من ذلك كما خلص ابن اسحاق فلم يقل بشيء من ذلك ، وإنمّا قال : ثمّ فتر الوحي عنه فترة حتّى شق عليه وأحزنه فجاءه جبرئيل بسورة الضحى.
__________________
(١) ابن اسحاق في السيرة ١ : ٢٥٧ ـ ٢٥٩.
(٢) ابن اسحاق في السيرة ١ : ٢٨٠ ـ ٢٨٢.