«ذكر أصحاب التأريخ القديم : أنّ أرض سبأ كانت من أخصب أرض اليمن وأثراها وأغدقها ، وأكثرها جنانا وغيطانا وأفسحها مروجا ، مع بنيان حسن وشجر مصفوف ، ومساكب للماء متكاثفة وأنهار متفرّقة. وكانت مسيرة أكثر من شهر للراكب المجدّ على هذه الحالة ، وفي العرض مثل ذلك ، وإنّ الراكب والمارّ كان يسير في تلك الجنان من أوّلها إلى أن ينتهي إلى آخرها لا تواجهه الشمس ولا تعارضه لاستتار الأرض بالعمارة الشجريّة. واستيلائها عليها وإحاطتها بها. وكان أهلها في أطيب عيش وأرفهه ، وأهنأ حال وأرغد قرى ، وفي نهاية الخصب وطيب الهواء وصفاء الفضاء وتدفّق الماء ، وقوّة الشوكة واجتماع الكلمة ونهاية المملكة ، وكانت بلادهم في الأرض مثلا ، وكانوا على طريقة حسنة من اتّباع شريف الأخلاق ، وطلب الأفضال بحسب الإمكان وما توجبه القدرة من الحال ، فمكثوا على ذلك ما شاء الله من الأعصار ، لا يعاندهم ملك إلّا قصموه ، ولا يوافيهم جبّار في جيش إلّا كسروه ، فذلّت لهم البلاد ، وأذعن لطاعتهم العباد ، فصاروا تاج الأرض» (١).
إلّا أنّ وجود هذه المستندات لا تدلّنا على حضارة تسود كلّ أقطار الجزيرة العربيّة ، ولا سيّما منطقة الحجاز التي لم تكن تتمتّع بهذه الحضارة بل لم تشمّ شيئا من نسيمها ، وهذا هو الذي جعلها مصونة عن تصرّف المتصرّفين بالبلاد ، فلم يتوجّه إليها نهم الروم والفرس اللذين كانا يقتسمان العالم آنذاك. والمقطوع به هو أنّه لم يبق من هذه الحضارة حين ظهور الإسلام شيء يذكر.
ونحن هنا نأتي بذكر قصّة أسعد بن زرارة الخزرجي ، التي تبيّن لنا نقاطا كثيرة من حياة الناس في الحجاز : روى الشيخ الطبرسي في كتابه «إعلام الورى بأعلام الهدى» عن علي بن إبراهيم أنّه قال :
__________________
(١) مروج الذهب ٢ : ١٨١.