ولا يخفى عليك ما فيه ، فإنّ العقل ليس من شأنه الحكم أصلا ، بمعنى أن يبعث نحو شيء أو يزجر عنه. نعم العقل يدرك الحسن والقبيح ولا ربط لإدراكه بالحكم أصلا ، نعم الإنسان بحسب طبعه ميّال إلى ما يلائم حواسّه الخمس ـ من سماع الأصوات الطيّبة وشمّ الروائح الطيّبة وأكل المأكولات الطيّبة ـ ولكن لا ربط لها بالحكم والحثّ. ومن جبلّة الإنسان حبّه لنفسه ، وبجبلّته أيضا يحبّ لنفسه ما هو الحسن عنده ويبغض ما هو القبيح لها ، فتراه يدفع عن نفسه كلّما يحتمل مضرّته لنفسه دنيا أو آخرة. وبالجملة ، فالعقل ليس من شأنه الحكم بمعنى الحثّ والردع ، لأنّهما من صفات المولى الحقيقي أو المولى العرفي فليس للعقل حظ فيهما أصلا.
وأمّا كون الحاكم بتطبيق آثار القطع حكم العقلاء (بتقريب أنّ سيرتهم مستمرّة على حسن الإحسان وقبح الظلم والعدوان لحفظ النظام ، ولا ريب أنّ مطالبة العبد بما وراء قطعه ظلم فيكون حينئذ مصداقا لتلك الكليّة) (١) فمعلوم ضعفه ، لأنّ حكم العقلاء موقوف على وجودهم واجتماعهم واستقرار بنائهم على شيء ، ونحن نرى لزوم ترتيب آثار القطع وإن لم نلتفت إلى وجود عقلاء واستقرار بنائهم على لزوم ترتيب الآثار ، فإنّه لو لم يكن في الدنيا إلّا إنسان واحد كان يرى لزوم ترتيب آثار القطع ولا يتوقّف عن ذلك إلى أن يبني العقلاء عليه أصلا. وأيضا فإنّ العقلاء إنّما يحكمون ويستقرّ بناؤهم بالنسبة إلى الأشياء الّتي يتوقّف عليها حفظ النظام الدنيوي ولا ربط لهم بالامور الشرعيّة ، فأيّ ربط لهم في أنّ القاطع بوجوب الصلاة مثلا يلزمه العمل على طبق قطعه ، فتأمّل.
وإذا بطل هذان النظران تعيّن الثالث ، وهو كون العقل يدرك حسن ترتيب آثار القطع لإدراكه قبح الظلم وحسن الإحسان. ولا ريب أنّ ترك أوامر المولى أو عدم الانزجار عن نواهيه من أظهر انواع الظلم القبيح ، فيدرك العقل حسن ترتيب آثار
__________________
(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.