ولا فرق في ما ذكرناه بين أن يكون الشكّ من جهة الشكّ في وجود الرافع وبين أن يكون لأجل الشكّ في استعداد الحكم ، لأنّ ارتفاع الحكم العقلي لا يكون إلّا بارتفاع موضوعه ، فيرجع الأمر بالآخرة إلى تبدّل العنوان. ألا ترى أنّ العقل إذا حكم بقبح الصدق الضارّ ، فحكمه يرجع إلى أنّ الضارّ من حيث إنّه ضارّ حرام؟
ومعلوم أنّ هذه القضيّة غير قابلة للاستصحاب عند الشكّ في الضرر ، مع العلم بتحقّقه سابقا ، لأنّ قولنا : المضرّ قبيح ، حكم دائمي لا يحتمل ارتفاعه أبدا ، ولا ينفع في إثبات القبح عند الشكّ في بقاء الضرر.
ولا يجوز أن يقال : إنّ هذا الصدق كان قبيحا سابقا فيستصحب قبحه ، لأنّ الموضوع في حكم العقل بالقبح ليس هذا الصدق ، بل عنوان المضرّ ، والحكم له مقطوع البقاء.
وهذا بخلاف الأحكام الشرعيّة ، فإنّه قد يحكم الشارع على الصدق بكونه حراما ، ولا
____________________________________
حيث قال فيها بالاستصحاب ، وبين الأحكام الشرعيّة المستفادة من الدليل العقلي حيث قال فيها بعدم تحقّق الاستصحاب ، وذلك لإمكان الشكّ في الحكم بعد إحراز الموضوع في الحكم الشرعي المستقلّ ، وعدم ذلك في الحكم العقلي والشرعي المستند إليه ، لأنّ المناط في الحكم الشرعي هو غير الموضوع ، وفي الحكم العقلي هو عين الموضوع.
وحينئذ يمكن الشكّ في الحكم الشرعي من جهة الشكّ في المناط الواقعي مع تحقّق الموضوع عند العرف ، ولا يمكن الشكّ في الحكم العقلي مع تحقّق الموضوع ، بل الشكّ فيه يرجع إلى الشكّ في الموضوع ، والمناط دائما ، ولهذا لا يتحقّق الاستصحاب في الحكم العقلي والحكم الشرعي المستند إليه ، ويتحقّق في الحكم الشرعي المستقلّ.
والسرّ في ذلك ما قيل من أنّ في القضية الشرعيّة ثلاثة أشياء : الموضوع ، والمناط الواقعي ، والحكم ، وفي القضية العقليّة شيئان : الموضوع الذي هو المناط ، والحكم.
قوله : (وهذا بخلاف الأحكام الشرعيّة ... إلى آخره).
دفع لما قد يتوهّم من أنّ ما ذكر من عدم جريان الاستصحاب في الأحكام العقليّة والأحكام الشرعيّة التابعة لها ، مستلزم لعدم جريانه في الأحكام الشرعيّة غير المستندة إلى الأحكام العقليّة ، كالأحكام الشرعيّة المستقلّة ، لأنّ الشكّ في الأحكام الشرعيّة وإن كانت مستقلّة دائما لكنّها يجب أن تكون من جهة الشكّ في المناط وما هو علّة الحكم ،