(وَرُهْباناً) وعبّادا وزهّادا (وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) عن قبول الحقّ إذا فهموه ، ويتواضعون ولا يتكبّرون كاليهود. وفيه دليل على أنّ التواضع والإقبال على العلم والعمل ، والإعراض عن الشهوات ، محمود وإن كانت من كافر.
ثمّ بيّن كيفيّة رقّة قلوبهم ، وشدّة خشيتهم ، ومسارعتهم إلى قبول الحقّ ، وعدم تأبّيهم عنه ، فقال : عطفا على «لا يستكبرون» : (وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ) يعني : القرآن (تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ). الفيض : انصباب عن امتلاء ، فوضع موضع الامتلاء للمبالغة ، أو جعلت أعينهم من فرط البكاء كأنّها تفيض بأنفسها (مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِ) أي : بمعرفتهم بأنّ المتلوّ عليهم كلام الله تعالى. «من» الأولى للابتداء ، والثانية لتبيين ما عرفوا ، أو للتبعيض ، فإنّه بعض الحقّ.
والمعنى : أنّهم عرفوا بعض الحقّ فأبكاهم ، فكيف إذا عرفوا كلّه؟! (يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا) بذلك ، أو بمحمد صلىاللهعليهوآلهوسلم (فَاكْتُبْنا) في أمّ الكتاب ، وهو اللوح المحفوظ. أو فاجعلنا بمنزلة من قد كتب (مَعَ الشَّاهِدِينَ) من الّذين شهدوا بأنّه حقّ ، أو بنبوّته ، أو من أمّته الّذين هم شهداء على الأمم يوم القيامة ، كما قال الله تعالى : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) (١). وإنّما قالوا ذلك لأنّهم وجدوا ذكرهم في الإنجيل كذلك.
(وَما لَنا) لأيّ عذر (لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ) ونرجو (أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ) من أمّة محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم. استفهام إنكار واستبعاد ، لانتفاء الايمان مع قيام الداعي ، وهو الطمع في الانخراط مع الصلحاء ، والدخول في مداخلهم. أو جواب سائل قال : لم آمنتم. و «لا نؤمن» حال من الضمير ، والعامل ما في اللام من معنى الفعل ، أي : أيّ شيء حصل لنا غير مؤمنين بالله ، أي : بوحدانيّته ، فإنّهم كانوا مثلّثين ، أو بكتابه ورسوله ، فإنّ الإيمان بهما إيمان به حقيقة ، وذكره
__________________
(١) البقرة : ١٤٣.