جعلها ـ أي : الكعبة ـ بيته ما أدري ما يقول ، إلّا أنّه يحرّك لسانه ويقول أساطير الأوّلين ، مثل ما حدّثتكم عن القرون الماضية. فقال أبو سفيان : إنّي لأراه حقّا.
فقال : أبو جهل : كلّا فنزلت : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ)
حين تتلو القرآن (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) أغطية ، جمع كنان ، وهو ما يستر الشيء (أَنْ يَفْقَهُوهُ) كراهة أن يفقهوه (وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) يمنع من استماعه. والأكنّة في القلوب والوقر (١) في الآذان مثل في نبوّ قلوبهم وسامعتهم عن قبوله واعتقاد صحّته. ووجه إسناد الفعل إلى ذاته ـ وهو قوله :«وجعلنا» ـ للدلالة على أنّه ثابت فيهم لا يزول عنهم ، كأنّهم مجبولون عليه. أو هي حكاية لما كانوا ينطقون به من قولهم : (وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) (٢). وقد مرّ (٣) تحقيق ذلك في أوّل سورة البقرة عند قوله : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ).
وقال القاضي أبو عاصم العامري : أصحّ الأقوال فيه ما روي أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يصلّي بالليل ، ويقرأ القرآن في الصلاة جهرا ، رجاء أن يستمع إلى قراءته إنسان فيتدبّر معانيه ويؤمن به. فكان المشركون إذا سمعوه آذوه ، ومنعوه عن الجهر بالقراءة. فكان الله تعالى يلقي عليهم النوم ، أو يجعل في قلوبهم أكنّة ليقطعهم عن مرادهم ، وذلك بعد ما بلغهم ممّا تقوم به الحجّة وتنقطع به المعذرة ، وبعد ما علم الله سبحانه أنّهم لا ينتفعون بسماعه ولا يؤمنون به ، فشبّه إلقاء النوم عليهم بجعل الغطاء على قلوبهم وبوقر آذانهم ، لأنّ ذلك كان يمنعهم من التدبّر ، كالوقر والغطاء. وهذا معنى قوله تعالى : (وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ
__________________
(١) وقرت أذنه وقرا : ثقلت أو ذهب سمعه كله وصمت أذنه.
(٢) فصلت : ٥.
(٣) راجع ج ١ : ٥٣ ـ ٥٤.