الرؤية منافية لصفاته.
وإنّما لم يقل موسى : أرهم ينظروا ، لأنّ الله سبحانه إنّما كلّم موسى وهم يسمعون ، فلمّا سمعوا كلام ربّ العزّة أرادوا أن يري موسى ذاته فيبصروه معه ، كما أسمعه كلامه فسمعوه منه ، إرادة مبنيّة على قياس فاسد ، فلذلك قال موسى : «أرني أنظر إليك». ولأنّه إذا زجر عمّا طلب ، وأنكر عليه في نبوّته واختصاصه وزلفته عند الله ، وقيل له : لن تراني ، كان غيره أولى بالإنكار. ولأنّ الرسول إمام أمّته ، فكان ما يخاطب به راجعا إليهم.
وقوله : «أنظر إليك» وما فيه من معنى المقابلة الّتي هي محض التشبيه والتجسيم ، دليل على أنّه ترجمة عن مقترحهم وحكاية لقولهم. وكيف طلب موسى ذلك لنفسه وهو أعلم الناس بالله وصفاته ، وما يجوز عليه وما لا يجوز ، وبتعاليه عن الرؤية الّتي هي إدراك ببعض الحواسّ؟! وذلك إنّما يصحّ فيما كان في جهة ، وما ليس بجسم ولا عرض فمحال أن يكون في جهة. وجلّ صاحب الجبل أن يجعل الله منظورا إليه ، مقابلا بحاسّة النظر ، فكيف بمن هو أعرق في معرفة الله؟! وإنّما قال : «لن تراني» ولم يقل كما قال موسى ، لأنّه لمّا كان «أرني» بمعنى : اجعلني متمكّنا من الرؤية الّتي هي الإدراك ، علم أنّ الطلب هو الرؤية ، لا النظر الّذي لا إدراك معه ، فقيل : لن تراني ، ولم يقل : لن تنظر إليّ.
وقوله : (وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ) استدراك يريد أن يبيّن به أنّه لا يطيقه.
والمعنى : أنّ النظر إليّ محال فلا تطلبه ، ولكن عليك أن تنظر إلى الجبل كيف أفعل به؟ وكيف أجعله دكّا بسبب طلبك الرؤية؟ لتستعظم ما أقدمت عليه بما أريك من عظم أثره. كأنّه عزوجل حقّق عند طلب الرؤية ما مثله عند نسبة الولد إليه في قوله : (وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً).
(فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ) كما كان مستقرّا ثابتا (فَسَوْفَ تَرانِي) تعليق لوجود الرؤية بوجود ما لا يكون ، من استقرار الجبل مكانه حين يدكّه دكّا ويسوّيه بالأرض.