و«خلقكم» ، والباقون بالغيبة ؛ مراعاة لقوله ـ عزوجل ـ : (فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ) وقوله : (فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ) واختاره أبو عبيدة وأبو حاتم ؛ لقرب المخبر عنه ، وأيضا فظاهر الخطاب أن يكون مع المسلمين ، والمسلمون لا يخاطبون بجحد النّعمة ، وهذا إنكار على المشركين.
فإن قيل : كيف يصيرون جاحدين بنعمة الله عليهم بسبب عبادة الأصنام؟.
فالجواب من وجهين :
الأول : أنّه لمّا كان المعطي لكل الخيرات هو الله ـ تعالى ـ ، فالمثبت له شريكا ، فقد أضاف إليه بعض تلك الخيرات ، فكان جاحدا لكونها من عند الله ، وأيضا فإنّ أهل الطبائع وأهل النجوم يضيفون أكثر هذه النّعم إلى الطبائع وإلى النّجوم ، وذلك يوجب كونهم جاحدين لكونها من عند الله.
الثاني : قال الزجاج : إنّه ـ تعالى ـ لمّا بين الدلائل ، وأظهرها بحيث يفهمها كل عاقل ، كان ذلك إنعاما عظيما منه على الخلق ، فعند ذلك قال : (أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ) في تقرير هذه البيانات وإيضاح هذه البينات «يجحدون».
قوله : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) الآية هذا نوع آخر من أحوال الناس استدلّ به على وجود الإله المختار الحكيم ، وتنبيها على إنعام الله على عبيده بمثل هذه النعم ، وهذا الخطاب للكلّ ، فتخصيصه بآدم وحوّاء ـ صلوات الله وسلامه عليهما ـ خلاف للدّليل ، والمعنى : أنه ـ تعالى ـ خلق النّساء ليتزوج بها الذّكور ، ومعنى (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) كقوله ـ تعالى ـ : (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [البقرة : ٥٤] وقوله : (فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) [النور : ٦١] ، أي : بعضكم بعضا ؛ ونظيره : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) [الروم : ٢١].
قال الأطباء وأهل الطبيعة : المنيّ إذا انصبّ إلى الخصية اليمنى من الذّكر ، ثمّ انصبّ منه إلى الجانب الأيمن من الرّحم ، كان الولد ذكرا تامّا ، وإن انصبّ إلى الخصية اليسرى ، ثمّ انصبّ منها إلى الجانب الأيسر من الرّحم ، كان الولد أنثى تامّا في الأنوثة ، وإن انصبّ منها إلى الخصية اليمنى ، وانصبّ منها إلى الجانب الأيسر من الرّحم ، كان ذكرا في طبيعة الإناث ، وإن انصبّ إلى الخصية اليسرى ، ثم انصبّ إلى الجانب الأيمن من الرّحم ، كان هذا الولد أنثى في طبيعة الذّكور.
وحاصل كلامهم : أنّ الذّكور الغالب عليها الحرارة واليبوسة ، والغالب على الإناث البرودة والرطوبة ، وهذه العلّة ضعيفة ، فإنّا رأينا في النّساء من كان مزاجه في غاية السّخونة ، وفي الرّجال من كان مزاجه في غاية البرودة ، ولو كان الموجب للذّكورة والأنوثة ذلك ، لامتنع ذلك ؛ فثبت أنّ خالق الذّكر والأنثى هو الإله القادر الحكيم.
قوله : «وحفدة» فيه أوجه :
أظهرها : أنه معطوف على «بنين» بقيد كونه من الأزواج ، وفسّر هذا بأنّه أولاد الأولاد.