الثاني بقوله : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً) وأشار إلى القسم الثالث بقوله تعالى : (جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً) فإن المسافر إذا لم يكن له خيمة يستظل بها ، فإنّه لا بد وأن يستظلّ إما بجدار أو شجر أو بالغمام ؛ كما قال ـ سبحانه ـ : (وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ) [الأعراف : ١٦٠].
قوله تعالى : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً) جمع «كنّ» ؛ وهو ما حفظ من الرّيح والمطر ، وهو في الجبل : الغار ، وقيل : كلّ شيء وقى شيئا ، ويقال : استكن وأكنّ ، إذا صار في كنّ.
واعلم أن بلاد العرب شديدة الحرّ ، وحاجتهم إلى الظلّ ودفع الحرّ شديدة ؛ فلهذا ذكر الله ـ تعالى ـ هذه المعاني في معرض النّعمة العظيمة ، وذكر الجبال ولم يذكر السهول وما جعل لهم من السهول أكثر ؛ لأنهم كانوا أصحاب جبال ، كما قال ـ تعالى ـ : (وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها) ؛ لأنّهم كانوا أصحاب وبر وشعر ، كما قال ـ عزوجل ـ : (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ) [النور : ٤٣] وما أنزل من الثلج أكثر لكنهم كانوا لا يعرفون الثّلج. وقال (تَقِيكُمُ الْحَرَّ) وما يقي من البرد أكثر ؛ لأنهم كانوا أصحاب حرّ.
ولمّا ذكر الله ـ تعالى ـ أمر المسكن ، ذكر بعده أمر الملبوس ؛ فقال ـ جل ذكره ـ : (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) والسّرابيل : القمص واحدها سربال.
قال الزجاج ـ رحمهالله ـ : «كل ما لبسته فهو سربال ، من قميص أو درع أو جوشن أو غيره» ؛ وذلك لأن الله ـ تعالى ـ جعل السّرابيل قسمين :
أحدهما : ما يقي الحرّ والبرد. والثاني : ما يتقى به من البأس والحروب.
فإن قيل : لم ذكر الحرّ ولم يذكر البرد؟.
فالجواب من وجوه :
أحدها : قال عطاء الخراساني : المخاطبون بهذا الكلام هم العرب ، وبلادهم حارّة [يابسة](١) ، فكانت حاجتهم إلى ما يدفع الحرّ أشدّ من حاجتهم إلى ما يدفع البرد ؛ كما قال ـ سبحانه وتعالى ـ (وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها) وسائر أنواع الثياب أشرف ، إلا أنه ـ تعالى ـ ذكر هذا النّوع ؛ لأن عادتهم بلبسها أكثر (٢).
والثاني : قال المبرّد : ذكر أحد الضّدّين تنبيه على الآخر ؛ كقوله : [الطويل]
٣٣٥٨ ـ كأنّ الحصى من خلفها وأمامها |
|
إذا حذفته رجلها حذف أعسرا (٣) |
لمّا ثبت في العلوم العقليّة أن العلم بأحد الضّدين يستلزم العلم بالضدّ الآخر ، فإنّ
__________________
(١) زيادة من : ب.
(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ٨٠) والرازي (٢٠ / ٧٦.
(٣) تقدم.