على أن الحجة لرسول الله صلىاللهعليهوسلم كانت ظاهرة باهرة ، وهذه الآية تدلّ على أن الكذب من أكبر الكبائر وأفحش الفواحش ؛ لأن كلمة «إنّما» للحصر ، والمعنى : أن الكذب والفرية لا يقدم عليهما إلا من كان غير مؤمن بآيات الله ـ تعالى ـ.
فإن قيل : قوله : (لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ) فعل ، وقوله تعالى : (وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) اسم وعطف الجملة الاسميّة على الجملة الفعليّة قبيح فما السّبب في حصولها ههنا؟.
فالجواب : الفعل قد يكون لازما وقد يكون مفارقا ، ويدلّ عليه قوله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ) [يوسف : ٣٥] ذكره بلفظ الفعل تنبيها على أن ذلك الحبس لا يدوم.
وقال فرعون لموسى : (لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) [الشعراء : ٢٩] ذكره بصيغة الاسم تنبيها على الدّوام ، وقالوا في قوله ـ تعالى ـ : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) [طه : ١٢١] لا يجوز أن يقال : إن آدم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ عاص وغاو ؛ لأن صيغة الفعل لا تفيد الدّوام ، وصيغة الاسم تفيده.
إذا عرفت هذه المقدمات ، فقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ) تنبيه على أنّ من أقدم على الكذب فإنه دخل في الكفر.
ثم قال ـ جل ذكره ـ (وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) ؛ تنبيها على أن صفة [الكذب](١) فيهم ثابتة [راسخة](٢) دائمة ؛ كما تقول : كذبت ، وأنت كاذب ، فيكون قولك : «وأنت كاذب» زيادة في الوصف بالكذب ، ومعناه : إنّ عادتك أن تكون كاذبا.
واعلم أن الآية تدلّ على أن الكاذب المفتري هو الذي لا يؤمن بآيات الله ، والأمر كذلك ؛ لأنه لا معنى للكفر إلا إنكار الإلهيّة ونبوّة الأنبياء ، ولا معنى لهذا الإنكار.
روي أن النبي صلىاللهعليهوسلم قيل له : هل يكذب المؤمن؟ قال : «لا» ثم قرأ هذه الآية.
قوله تعالى : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ) يجوز فيه أوجه :
أحدهما : أن يكون بدلا من (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) ، أي : إنّما يفتري الكذب من كفر ، واستثنى منهم المكره ، فلم يدخل تحت الافتراء.
الثاني : أنه بدل من «الكاذبون».
الثالث : أنه بدل من «أولئك» ، قاله الزمخشري.
فعلى الأول يكون قوله : (وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) جملة معترضة بين البدل والمبدل منه.
__________________
(١) في أ: الكفر.
(٢) في ب : واضحة.