إذا عرف هذا ، فالمنع من التأفيف ، إنما دلّ على المنع من الضرب بالقياس الجليّ من باب الاستدلال بالأدنى على الأعلى ؛ لأنّ التأفيف غير الضرب ، فالمنع من التأفيف لا يكون منعا من الضرب ، وأيضا : المنع من التأفيف لا يستلزم المنع من الضرب عقلا ؛ لأنّ الملك الكبير ، إذا أخذ ملكا عظيما ، كان عدوّا له ، فقد يقول للجلّاد : إيّاك أن تستخفّ به أو تشافهه بكلمة موحشة ، لكن اضرب رقبته ، وإذا كان هذا معقولا في الجملة ، علمنا أنّ المنع من التأفيف يغاير المنع من الضرب ، وغير مستلزم للمنع من الضرب في الجملة إلّا أنّا علمنا في هذه الصورة : أنّ المقصود من هذا الكلام المبالغة في تعظيم الوالدين ، لقوله تعالى : (وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ).
فكانت دلالة المنع من التأفيف على المنع من الضرب بالقياس من باب الاستدلال بالأدنى على الأعلى.
قوله : (وَلا تَنْهَرْهُما) أي : لا تزجرهما ، والنّهر : الزّجر بصياح وغلظة وأصله الظهور ، ومنه «النّهر» لظهوره ، وقال الزمخشري ـ رحمهالله تعالى ـ : «النّهي والنّهر والنّهم أخوات».
ويقال نهره وانتهره ، إذا استقبله بكلام يزجره ، قال تعالى : (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) [الضحى : ١٠].
فإن قيل : المنع من التأفيف يدلّ على المنع من الانتهار ؛ بطريق الأولى ، فلما قدم المنع من التأفيف ، كان المنع من الانتهار بعده عبثا ، ولو فرضنا أنه قدّم المنع من الانتهار على المنع من التأفيف ، كان مفيدا ؛ لأنّه يلزم من المنع من الانتهار المنع من التأفيف ، فما السّبب في رعاية هذا التّرتيب؟.
فالجواب (١) : أن المراد من قوله تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) المنع من إظهار الضّجر بالقليل والكثير ، والمراد من قوله (وَلا تَنْهَرْهُما) المنع من إظهار المخالفة في القول على سبيل الردّ عليه.
قوله تعالى : (وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً) لمّا منعه من القول المؤذي ، وذلك لا يكون أمرا بالقول الطّيب ، فلا جرم : أردفه بأن أمره بالقول الحسن ، فقال : (وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً).
قال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ : هو أن يقول له : يا أبتاه ، يا أمّاه (٢) ، وقال عطاء : هو أن تتكلّم معهما بشرط ألّا ترفع إليهما بصرك (٣).
وقال مجاهد : لا تسمّهما ولا تكنّهما (٤) ، فهو كقول عمر ـ رضي الله عنه ـ.
__________________
(١) ينظر : الفخر الرازي ٢٠ / ١٥٢.
(٢) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢٠ / ١٥٢).
(٣) ينظر : المصدر السابق.
(٤) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١١٠).