فإن قيل : إنّ إبراهيم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ كان أعظم النّاس حلما وكرما وأدبا ، فكيف قال لأبيه : «يا آزر» على قراءة (لِأَبِيهِ آزَرَ) بالضمّ (إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [الأنعام : ٧٤] فخاطبه بالاسم ، وهو إيذاء له ، ثم نسبه ونسب قومه إلى الضلال ، وهو أعظم أنواع الإيذاء.
فالجواب أن قوله تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) يدلّ على أنّ حقّ الله متقدّم على حقّ الأبوين ، فإقدام إبراهيم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ على ذلك الإيذاء ، إنّما كان تقديما لحق الله تعالى على حقّ الأبوين.
قوله تعالى : (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ).
والمقصود المبالغة في التواضع ، وهذه استعارة بليغة.
قال القفّال (١) ـ رحمهالله تعالى ـ : وفي تقريره وجهان :
الأول : أنّ الطائر ، إذا أراد ضمّ فرخه إليه للتربية خفض له جناحه ، فلهذا صار خفض الجناح كناية عن حسن التربية ، فكأنّه قال للولد : اكفل والديك ؛ بأن تضمّهما إلى نفسك ، كما فعلا ذلك بك حال صغرك.
والثاني : أنّ الطائر ، إذا أراد الطّيران ، نشر جناحيه ، ورفعهما ؛ ليرتفع ، وإذا أراد ترك الطيران ، خفض جناحيه ، فجعل خفض الجناح كناية عن التواضع واللّين.
وقال الزمخشري : «فإن قلت : ما معنى جناح الذلّ؟ قلت : فيه وجهان :
أحدهما : أن يكون المعنى : واخفض لهما جناحك ، كما قال : (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) [الحجر : ٨٨] فأضافه إلى الذّلّ [أو الذّلّ] ، كما أضيف حاتم إلى الجود على معنى : واخفض لهما جناحك الذّليل أو الذّلول.
والثاني : أن تجعل لذلّه أو لذلّه جناحا خفيضا ؛ كما جعل لبيد للشّمال يدا ، وللقرّة زماما ، في قوله : [الكامل]
٣٤٠٥ ـ وغداة ريح قد كشفت وقرّة |
|
إذ أصبحت بيد الشّمال زمامها (٢) |
مبالغة في التذلّل والتواضع لهما» انتهى ، يعني أنه عبّر عن اللين بالذلّ ، ثم استعار له جناحا ، ثم رشّح هذه الاستعارة بأن أمره بخفض الجناح.
ومن طريف ما يحكى : أن أبا تمام ، لمّا نظم قوله : [الكامل]
٣٤٠٦ ـ لا تسقني ماء الملام فإنّني |
|
صبّ قد استعذبت ماء بكائي (٣) |
__________________
(١) ينظر : الفخر الرازي ٢٠ / ١٥٣.
(٢) تقدم.
(٣) ينظر : ديوانه ص ١٠ ، البحر المحيط ٦ / ٢٦ ، الدر المصون ٤ / ٣٨٦.