ثم إنه تعالى ذكر السّبب الأصلي في وقوع هؤلاء الجهّال في أودية الضّلال ، وهو حبّ الدنيا ، والرغبة في المال والجاه ، واعتقادهم أن ذلك إنّما يحصل بجدّهم واجتهادهم ، فقال : (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ).
قال ابن عباس : الإنسان هاهنا هو الوليد بن المغيرة.
والأولى أنّ كل إنسان من شأنه إذا فاز بمقصوده ، اغترّ وصار غافلا عن عبادة الله ـ تعالى ـ وتمرّد على طاعته ؛ كما قال : (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) [العلق : ٦ ، ٧].
قوله تعالى : (وَنَأى) : قرأ العامة (١) بتقديم الهمزة على حرف العلة ؛ من النّأي ، وهو البعد ، وابن ذكوان ـ ونقلها أبو حيان وابن الخطيب عن ابن عامر وأبو جعفر : «ناء» مثل «جاء» بتقديم الألف على الهمزة ، وفيها تخريجان :
أحدهما : أنها من : ناء ، ينوء ، أي : نهض ؛ قال : [الرجز]
٣٤٦٠ ـ حتّى إذا ما التأمت مفاصله |
|
وناء في شقّ الشّمال كاهله (٢) |
والثاني : أنه مقلوب من «نأى» ، ووزنه «فلع» كقولهم في «رأى» : «راء» إلى غير ذلك فيكونان بمعنى ، ولكن متى أمكن عدم القلب ، فهو أولى ، وهذا الخلاف أيضا في حم السجدة [فصلت : ٥١].
وأمال الألف إمالة محضة (٣) الأخوان ، وأبو بكر ، عن عاصم ، وبين بين ؛ بخلاف عنه ، السوسيّ ، وكذلك في فصّلت ، إلا أبا بكر ؛ فإنه لم يمله (٤).
وأمال فتحة النون في السورتين (٥) خلف ، وأبو الحارث والدّوري عن الكسائيّ.
ثم قال : (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ) ، أي : الشّدة ، والضر (كانَ يَؤُساً) أيسا قنوطا.
وقيل : معناه : أنّه يتضرّع ، ويدعو عند الضّرّ والشدّة ، فإذا تأخّرت الإجابة ، أيس ، ولا ينبغي للمؤمن أن ييئس من الإجابة ، وإن تأخّرت ، فيدع الدعاء.
قوله تعالى : (عَلى شاكِلَتِهِ) : متعلق ب «يعمل» ، والشّاكلة : أحسن ما قيل فيها ما قاله الزمخشريّ والزجاج : أنها مذهبه الذي يشاكل حاله في الهدى والضلالة ؛ من قولهم :
__________________
(١) ينظر : السبعة ٣٨٤ ، والتيسير ١٤١ ، والنشر ٢ / ٣٠٨ ، والإتحاف ٢ / ٢٠٣ ، والحجة ٤٠٩ ، والقرطبي ١٠ / ٢٠٨ ، والرازي ١ / ٣٠ ، والوسيط ٣ / ١٢٤ ، والبحر ٦ / ٧٣ ، والحجة للقراء للسبعة ٥ / ١١٥.
(٢) ينظر البيت في مشكل القرآن ٢٠٤ ، البحر المحيط ٦ / ٧٣ ، روح المعاني ١٥ / ١٤٧ ، التهذيب واللسان «نوأ» ، الدر المصون ٤ / ٤١٦.
(٣) ينظر : النشر ٢ / ٤٣ ، والإتحاف ٢ / ٢٠٤ ، والسبعة ٣٨٤ ، والحجة للقراء السبعة ٥ / ١١٦ ، والحجة ٤٠٩.
(٤) ينظر : الإتحاف ٢ / ٢٠٤ ، والدر المصون ٤ / ٤١٦.
(٥) ينظر : النشر ٢ / ٤٤ ، والدر المصون ٤ / ٤١٦ ، ٤١٧.